يجري على خاطرك أن لإبليس قدرة بأهله ، بل يغويهم بإغواء الحق إياهم ، ألا ترى إلى قوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، ظاهره القسم ، وباطنه الآلة والاستعانة بقهره ، يا ليت الملعون أدرك الخطاب الثالث بعد الخطاب الأول والثاني ؛ حيث قال : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) ، وحيث قال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ، ثم قال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) لم يعرف مفهوم الخطاب ، وهو أن من كان له مباشرة أنوار يد الأزل ويد الأبد في ظاهره وروح تجلي جلال الذات في باطنه يكون مستحقّا في جميع الأحوال لكرامات سنية وأحوال رفيعة وخدمة أهل الملكوت له وسجود الملائكة له ؛ إذ كان مشرق أنوار جلال الأزلي وجمال الأبدي.
جئنا إلى مقالة المشايخ رحمة الله عليهم فيما قالوا في هذه الآية :
قال بعضهم في قوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) : امتحنهم بالإعلام ، وحثّهم بذلك على طلب الاستفهام ، فيزدادوا علما بعجائب قدرته ، ويتلاشى عندهم نفوسهم.
قال بعضهم في قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) : أي كاملا ، يستحق التعظيم بخصائص الاختصاص التي خص بها من خصوص الخلقة ، (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).
قال ابن عطاء في قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) : أبديت عليه آثار شواهد عزتي ، وروّحت ستره بما يكون به العبيد روحانيين.
قال بعضهم : هو روح ملك ، وهو الذي خصصه به ، فأوجبت تلك الخصوصية سجود الملائكة له.
وقال بعضهم : وهو قول الفناء ، جذبهم بشهود التعظيم ، فلم يستجيزوا المخالفة ، وحجب إبليس برؤية الفخر بنفسه عن التعظيم ، ولو رأى تعظيم الحق لما استجاز الفخر عليه ؛ لأن من استولى عليه الحق قهره.
قال جعفر في قوله : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) : سخطي الذي لم يزل جاريا عليك ، وواصلا إليك في أوقاتك المقدرة وأيامك الماضية.
قال بعضهم في قوله : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) : الذي يكون سره بينه وبين ربه ، بحيث لا يعلم ملك فيكتبه ، ولا هوى فيميله ، ولا عدو فيفسده.
(إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))
قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي : القرآن صفته الأزلية ، يذكر للعالمين شمائل جماله وجلاله ، ويظهر كنوز أسراره وأنوار ذاته وصفاته لمن له فهم عقل ومعرفة.
قال ابن عطاء : يطرد به عند الغفلة ليعتبر به المعتبرون.