الأزليات والأبديات ، ولو كانت الملائكة بهذه المثابة لكانت معها في الكينونية من سنا برق تجلي الحق ، وعرفتها بالأهلية ، فإذا كانت الملائكة نازلة من درجاتها وصارت محجوبة عن رؤية ظهورها في العالم احتاجت إلى إعلام الحق بذلك ، فلما علم الحق أنهم جهلوا حقائق وجود آدم لم يذكر ههنا ذكر روحه معهم ، وقدم ذكر الصورة من قلة عرفانهم شرف روحه ، وقال : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (١) ، مكر بهم حتى وقعوا في التشويش والنظر إلى أنفسهم بالخيرية حتى يظهر بعد ذلك كمال آدم ، فإذا كانوا مخالفين في صورته بأول الخطاب كيف كانوا في قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)؟! وذلك من أعظم عجائب الربوبية ، وفيه تفهيم تحقيق عبوديته ؛ حتى لا يجري في قلوب الملائكة أنه بمعنى من الربوبية في وقت سجوده أي : إني خالق بشرا من طين أي : من عجز وضعف أكسية أنوار جلالي وعظمتي ، فإذا كمّلته اتصف بصفاتي منورا بنور ذاتي ، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أي : أحييه بحياتي وبروحي التي ظهرت من تجلي الجلال والجمال ، (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٧٢) ؛ إذ يكون قبلة أنوار عزتي وكبريائي ومواقع تجلي ذاتي وصفاتي ، فلما رأته الملائكة بتلك الصفات سجدت له كلهم من حيث أراهم الحق آدم منورا بنوره مصورا بصورته إلا إبليس ؛ لأنه كان من الكافرين المحجوبين ؛ لطمس الحق إياه ، وبأنه لم يكن مكتحلا بكحل نور جمال الأزل ، فلما لم يكن له أهلية لرؤية وقع في رؤية نفسه ورؤية خيريته حتى (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٢) ، وقع في قياس النار والطين ، ولم ير أنوار جمال الحق التي ظهرت من وجه آدم ، وهكذا حال المدعين والسالوسيين والمرائين المداهنين في حق أوليائه ، لا جرم كان مخاطبا بالطرد والإبعاد إلى يوم الميعاد ، حتى لا يذوق حلاوة برد الوصال ، ولا يرى أنوار الجمال والجلال ، ولا يدرك فضائل الأنبياء والأولياء إلى أبد الآباد ، بل إذا يرى أثر سلطنة ولايتهم وعزة أحوالهم ، يذوب كما يذوب الملح في الماء ، ولا يبقى له حيل ، ولا يطيق أن يمكر بهم ، بل ينسى في رؤيتهم جميع مكرياته ، ولا يطيق أن يرمي إليهم من أسهم وسوسته ، سبل وسوسته تلحق بأهله لا بأهل الحق ، وذلك قوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣) : المتجردين في قصودهم نحو قدم الحق وبقائه الأبدي وجماله الأزلي عن الأكوان والحدثان ، واحذر ألا
__________________
(١) فهو عين هذا النفس بفتح الفاء ، فقبلته الصورة على حسب استعدادها ، وقابليتها.
(٢) هذه أول معارضة ظهرت من إبليس في صنعة الجدال ، فإنه جادل ربه وما أحسن في جداله ؛ لأنه ما أعطي حقه إن الحق تعالى أراد بقوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي : يد تنزيه وتشبيه ، وإن شئت قلت : يد وجوب وإمكان ، أو يد بخلاف سائر العالم ملكا وفلكا.