ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى) : أصل كل طاغوت النظر إلى النفس ، وإلى ما سوى الله من العرش إلى الثرى في طريق إفراد القدم عن الحدوث على وجه الإقبال إلى شيء دونه ، فالذين جانبوا الكل وأنابوا إلى أصل كل أصل بنعت الاستعانة به فلهم النظر إلى جماله ، ولهم النظارة والبشارة في وجهه ، والفرح بمشاهدة جماله ، فهم مربوطون في الدنيا عند كل نفس ببشارة منه ، بأنهم يرونه على وفق مرادهم ومحبتهم ، ثم زاد في وصفهم بقوله : (فَبَشِّرْ عِبادِ) ، أمر حبيبه صلىاللهعليهوسلم بأن يبشرهم بالرضوان الأكبر ، ثم بيّن استحقاق البشارة لهم بأي وجه يلحق بهم بقوله : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) (١) : يستمعون الحق من الحق من حيث الحق ، (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) : يتبعون كل الخطاب بالإيمان وعلى ما يوافق مراد الحق منهم بالعمل ، فإذا الكل حسن مبارك ، فمن حيث رسوم الأمر أحسن ما يطيقون حمله من وارد الخطاب بنعت متابعته ، وفي الحقيقة الأحسن ما لم يوافق طباع الحدثان ، وذلك مثل آي المتشابه في عرفان الذات والصفات ؛ فالأوامر والنواهي أحسن لهم ، والأنباء من علوم الذات والصفات أحسن للحق ، ولكن من حيث إن القول صفته ؛ فالكل حسن من حيث معاني الصفة ، وأيضا يتبعون أحسنه من الأعمال السنية والأخلاق الكريمة ، وبيّن أن هذه المتابعة منهم من هدايته لهم وتعريف نفسه إياهم ، وأنه تعالى جعلهم الألباء المستعدين بقبول قوله وإدراك خطابه بالفهوم النورية والعقول الصافية والذكاء العجيب بقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ.)
قال سهل في قوله : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) : الدنيا ، وأصلها الجهل ، وفرعها المآكل والمشارب ، زينتها التفاخر ، وثمرتها المعاصي ، وميراثها القسوة والعقوبة.
وقال الأستاذ : طاغوت كل أحد نفسه ، وإنما يجتنب الطاغوت من خالف هواه وعانق رضا مولاه.
قال أبو بكر بن طاهر في قوله : (فَبَشِّرْ عِبادِ) : بشّر الله تعالى من فتح سمعه لاستماع الأحسن من سماعه لا من سمعه على العادة والطبع ؛ فإن المتحقق في السماع من يعرف حاله في وقت السماع ، فيتبع الأحسن مما يسمع ، ويدعّي ما فيه شبهة واشتباه ، وصفهم الله تعالى
__________________
(١) ولذلك قالوا : الصوفي : دمه هدر ، وماله مباح ؛ لأنه لا ينتصر لنفسه ، بل يدفع بالتي هي أحسن السيئة ، البحر المديد (٣ / ٣١٠).