قوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) : أخبر الله سبحانه عن دنو حبيبه منه ، وذلك بعد أن ألبسه نعوت الصفات وأنوار الذات ، وأخرجه من جميع العلل الحدثانية ، فدنا الحق من الحق ، دنا بالصفات من الصفات ، فلما استلذّ مشاهدة الصفات كاد أن يقف في سيره بلذة الصفات ، فأدناه الحق من الذات بعد أن دنا من الصفات ، واستغرق في بحر الذات ، ولم يبق معه من علمه شيء ، ولا من بصره شيء ، ولا من سمعه شيء ، ولا من إدراكه شيء ، فألبسه الله أيضا نورا من سمعه وبصره ، فرأى الحق بنور الحق ، وسمع من الحق بسمع الحق ، فظن أنه قد وصل بالكل إلى الكل ، فأراه الحق قيمته.
(فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩))
قوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أي : بيني وبينه قوس الحدوثية وقوس الأفعالية ، فبقي بين القوسين عن إدراك العين بالحقيقة بالعين والقلب ، وأيضا ظن أنه وصل ؛ إذ لا فصل هناك ولا وصل ولا قرب ولا بعد ، فإن ساحة الكبرياء منزّهة عن هذه العلل ، فبيّن له الحق أن بينه وبين الحق قوسين : قوس الأزل ، وقوس الأبد ، ومن يصل إلى من بعد منه من الأزل إلى الأبد أي : الحدث بعيد مني بقدر الأزل والأبد ؛ إذ لا قدر في الأزل والأبد ، وكيف يصل إلى من تنزيهه أبعده بالأزل والأبد من ذاته وصفاته ، فإذا كان كذلك استحال قرب الحدث من ذاته وصفاته من حيث المسافة ، وأيضا رمى الحق سهم الدنو من قوس الأزل ، ورمى سهم التدلي من قوس الأبد من كناية الذات والصفات إلى قلب حبيبه صلىاللهعليهوسلم ، فجرحه بسهم المحبة وسهم المعرفة ، فكان في تلك الليلة مطروحا في ميدان الأزل ، مجروحا في ميدان الأبد.
قال جعفر : انقطعت الكيفية عن الدنو ، ألا ترى أن الله حجب جبريل من دنوه ودنو ربه منه.
وقال القاسم : وقعت المواصلة فأشرف ، والإشراف هو المشاهدة ، وقاب قوسين موضع الإشكال ، إشكال ليتبين العارف ويهلك الجاحد.
وقال الواسطي : من توهم أنه بنفسه دنا جعل ثمّ مسافة ، إنما التدلي أنه كلما قربه من نفسه بعده من المعرفة ؛ إذ لا دنو للحق ولا بعد ، فكلما دنا بنفسه من الحق تدلى بعدا ، فانقلب في الحقيقة خاسئا وهو حسير ؛ إذ لا سبيل إلى مطالعة الحقيقة.
وأما الإخبار عن الفضل أنه أخذه من إياه وأشهده إياه فكان في الحقيقة ذا نفسه
__________________
ـ السرير ، ودلّى دلوه ، والدوالي : الثمر المعلّق. البحر المديد (٦ / ١٧١).