فليس ذلك له ، إنما ذلك لله وإن كان هو متمتعا بها ، وأيضا : ليس كل عمل للإنسان ؛ إنما بعضها لله مثل الصوم ، كما قال صلىاللهعليهوسلم : «الصوم لي وأنا أجزي به» (١) ، فذلك لله لا للإنسان ، وثوابه فضل الله ، وذلك رؤيته ، وهي قائمة بذاته ، وعند ذلك لا يبقى قدر سعايات أهل الكون ، وتصديق ذلك قوله : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي : سوف يعرف أن سعيه في جلال عزته ، وما اختار له في الأزل من كشف جماله ليس بشيء ؛ لأن الحادث لا وزن له عند القديم ، ثم زاد فضله بأن يؤتيه فوق ما كان في سعيه بقوله : (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) ، فلما خرج من هذه العلل وعن الأعمال والثواب والدرجات يتباهى الكل عند بروز أنوار وجوده وجلاله بقوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) ، ثم وصف نفسه بأنه أضحك وأبكى بطلوع صبح جماله العاشقين ، وأبكى بظهور شمس ذاته العارفين ، يبكون عليه منه بفقدان الكل ؛ لأنهم يعرفونه بامتناعه عن إدراكهم وعن تقصيرهم أيضا في طلب معرفتهم بربهم وقلة معرفتهم بوجود ربهم ، وذلك عند كشف المعاينة ، أضحك المستأنسين بنرجس مودته وياسمين قربته وطيب شمال جماله ، وأبكى المشتاقين بظهور عظمته وجلاله ، وأمات العارفين بنعت الفناء في سطوات ديموميته وظهور صدمات أنوار ذاته ، وأحيى العاشقين بكشف صفاته ، فالأولون فنوا فيه ، والآخرون بقوا به ، وأيضا أمات المريدين بالحجاب ، وأحيى المحبين بكشف النقاب.
قال ابن عطاء في قوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) : ليس له من سعيه إلا ما نواه ، إن كان سعيه لرضا الرحمن فإن الله يرزقه الرضوان ، وإن كان سعيه للثواب والعطاء والأعواض فله ذلك.
وقال النصرآبادي : سعي الإنسان في طريق السلوك لا في طريق التحقيق ، فإذا تحقق يسعى به ولا يسعى هو بنفسه ، وأنشد :
الطرق شتّى وطرق الحق منفرد |
|
والسالكون طريق الحقّ أفراد |
وقال الوراق : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ذلك في بدايتهم ، (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) في توسط أمورهم ، (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) ، وذلك في نهايتهم ، (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) ، وذلك عند فناء العبد من إرادته وصفاته ، (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) النشء الثاني.
وقال الواسطي في قوله : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) : أنه لم يكن مما يستجلب به شيء
__________________
(١) رواه البخاري (٦ / ٢٧٢٣) ، ومسلم (٢ / ٨٠٧).