بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أظهره الله لهم بصورة ترابية ، وفطرة جسمانية ، ولولا أنه ستره بالماء والطين لماتوا جميعا في النظر إليه ؛ لأنه كان خارجا من الحضرة ، منعوتا بنعت الله ، موصوفا بصفة على لباس أنوار الربوبية ، فقبل دخوله في صورته لم تكن الصورة شيئا مذكورا حين لم تنعكس عليها أنوار روحه ، فإذا أراد أن ينفخ فيها روحه خلقها بيده ، وخمر طينه لطفه ، وصوّر لها بصورة علمه ، وجعل فيها أطوارا من معجونات قدرته وعلمه ، ثم تركها في فضاء غيبه ، حتى مضى عليها دهرها ، ودار عليها فلك دوار ، ففي كل لحظة وساعة أبدع فيها بدائع فطرته ، ولم يكشف تلك الحقائق للملائكة ، ولم يروها إلا صورة صلصالية ، طورا من حمإ مسنون ، وطورا من تراب وغبار ، وطورا من صلصال كالفخّار ، حتى تنقّشت بنقوش القدرة ، ودخل فيها روح الأولية ، فلما قام آدم في الحضرة سجد له كل شيء ؛ لما عليه من آثار جلال الحق ، وكيف تذكره أحد وذكره غاب في ذاكره ومذكوره تعالى الله عن كل نقص وعلة ، فكما خلق آدم بهذه المثابة خلق ذريته في معادن غيبه أطوارا ، وطورا روحانيا ، وطورا عليّا ، وطورا عقليّا ، وطورا نفسانيّا ، وطورا حيوانيّا ، وطورا شهوانيّا ، وطورا شيطانيّا ، وطورا سرّيّا ، وطورا ملكوتيّا ، وطورا ربّانيّا ، فهذه الأطوار يغلبها الله في زمان علمه وقدرته ، ويجعلها في كل أوان عجبته من علمه غريبا من قدرته مصبوغة بصبغ أفانين تجلّيه ، وذلك قوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) ؛ لأن كل إنسان عنده آدم ثان (١).
قال جعفر : هل أتى عليك يا إنسان وقت لم يكن الله ذكرا لك فيه.
وقال أبو عثمان المغربي : ابتلى الله الحق بتسعة أمشاج : ثلاث مفتنات ، وثلاث كافرات ، وثلاث مؤمنات ، فأما الثلاثة المفتنات : فسمعه وبصره ولسانه ، وأما الثلاث الكافرات : فنفسه وهواه وعدوه ، وأما الثلاث المؤمنات : فعقله وروحه وقلبه ، فإذا أيّد الله العبد بالمعونة قهر العقل على القلب ، فملكه ، واستأسرت النفس والهوى ، فلم تجد إلى الحركة سبيلا ، فجانست النفس الروح ، وجانس الهوى العقل ، وصارت كلمة الله هي العليا ، قال الله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)
(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَا
__________________
(١) قال الفخر الرازي : فهذا تصريح بأن الإنسان شيء واحد وذلك الشيء هو المبتلي بالتكاليف الإلهية والأمور الربانية وهو الموصوف بالسمع والبصر ومجموع البدن ليس كذلك وليس عضوا من أعضاء البدن كذلك فالنفس شيء مغاير لجملة البدن ومغاير لأجزاء البدن وهو موصوف بكل هذه الصفات. واعلم أن الأحاديث الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة وكل ذلك يدل على أن النفس شيء غير هذا الجسد. تفسير الرازي (١٠ / ١٢٩).