وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤))
قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) : حقيقة إشارته أنه تعالى عرّف لهم الطريق ، فمن بقى في الطريق ولم يصل إليه فمنعه لم يبلغ ، ومن وصل إليه فيجد به بلغ إليه ، فمن بلغ يكون بمعرفته شاكرا له ، ومن لم يبلغ إليه فيجد ؛ لأنه يكون كافرا به ، إذ لم يذق طعم الوصال ، ولم ير نور مشاهدة الجمال ، مهّد الطريق ، ونصّب الأعلام ، وأوضح المنار والأدلة ، ودعاهم به إلى نفسه ، فمن واصل يسكن بما وجد به وهو شاكر ، ومن واصل لم يسكن بما وجد ، ويكون معربدا بطلب مزيد الدنوّ ، وفي كل ما وجد لم يكن راضيا حتى وصل إلى غيبوبة الغيب ، ويشرب من أنهار صرف الصفات والذات ، فيخرج متحدا يدّعي الربوبية ، ويكون كافرا الحقيقة.
قال سهل : بيّنّا له طريق الخير من طريق الشر ، إما أن يكون شاكرا طائعا ، فمستقره الجنة ، وإما أن يكون كفورا جاحدا ، فمأواه النار.
(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠))
قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) (٥) : وصف الله سبحانه أوساط أهل المعرفة من أهل السلوك أنهم يشربون شرابا من كاسات قربه ، يكون مزاجها كافور المعرفة مع شراب المشاهدة ، لم يكن لهم شرابا صرفا من المعرفة ؛ لأنهم يبقون في سكر المشاهدة ، يغيبون عن مطالعة الحقيقة بعيون المعرفة ، فأول شربهم صحو ، وآخر شربهم سكر ، ولم يكن كذلك العارفون ، فإنهم يشربون صرف شراب المشاهدة المنعوت بالمعرفة مع الصحو من أول شربهم إلى آخر شربهم ؛ حتى لا يحتجبوا عن رؤية غرائب تجلي