نجوم العلوم ، وتتفجّر بحار الأرواح والعقول ، ويخرج ما في القبور والصدور من معاني الحقائق ، ولطائف الدقائق ، علمت النفوس الروحانية ما قدمت من بذل وجودها بنعت السوق ، وما أخّرت من بقايا رمقاتها لاصطياد طيور التجلّي والواردات.
قال أبو عثمان : ما قدمت من خير ، وأخّرت من شرّ.
وقال بعضهم : ما قدّمت من حقّ ، وأخّرت من باطل.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (٦) : عجبت من هذا الخطاب الذي فيه تهديد المخالف ، ومواساة الموافق كيف يخاطب بخطاب مع المخالف الذي فيه مواساة الموافق ، فيه ما فيه من إشارات علومه المجهولة ، ورموزات كنوزه الغيبية التي لا يعرفها إلا دهش في الوحدانية ، هائم في رؤية الفردانية ، مشرف بالحق على ما للحق من مكنون سره ، ولطائف برّه التي بحلاوتها يغر كل مغرور ، وينشط كل مجترئ في اقتحامه في شاقات البليّات ، وبيان ذلك ظاهر في قوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ، يلقيهم جواب سؤاله ؛ ليقولوا : كرمك يا ربنا غرّنا.
قال ابن عطاء : ما قطعك عن صحبة مولاك.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو قيل لي ما غرّك بي؟ قلت : جهلي بك غرّني لا غير.
قال منصور بن عمار : لو قيل لي ما غرّك بي؟ قلت : يا رب ما غرني إلا ما علمته من فضلك على عبادك ، وصفحك عنهم.
وقال يحيى بن معاذ : لو قيل لي ما غرك بي؟ قلت : برّك بي.
قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨) : خلقك فسواك بعلمه عليك في القدم ، فخرجت على وفق ما علمت ، فصرت مستويا بما يعلم الأزل متّصفا بصفاتي ؛ إذ كل صفة مني أورثت صفة فيك ، وبصورة الروح الناطقة الأولية ركّبك ، وهي تنورها منك لا يتفاوت بين صورتك وروحك في الخليقة والصورة ، فإن صورتك الظاهرة منقوشة بنقش صورة الروح ، وأيضا : ركّبك في صورة المحبة والولاية والخلافة والمعرفة والجهل بحقائق وجودي ووجودك ، الذي لو عرفته عرفتني ، وأطعتني بمعرفتك لي.
قال الجنيد : تسوية الخلق بالمعرفة ، وتعديلها بالإيمان.
وقال ذو النون : (خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) ، فأوجدك ، فسخّر لك المكنونات أجمع ، ولم يسخّرك لشيء.
قال الواسطي في قوله : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨) : صورة المطيعين