الحدثان بتجلي مشاهدة الرحمن ، فكان قلبه عليهالسلام صدف لآلئ خطاب الحق يسبح في بحار الكرم ، فيتلقف كلام الحق من الحق بلا واسطة ؛ وذلك سر عجيب ، وعلم غريب بأنه سمع كلام الحق ، وما اتصل به ؛ لأن كلامه لم ينفصل منه ، وكيف يفارق الصفات عن الذات لكن بقي في قلبه ظاهره وعلمه وسره ؛ فجبريل في البين واسطة لجهة الحرمة ، وذكر ذلك بقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) ؛ لأن القلب معدن الإلهام والوحي والكلام والرعاية والعرفان به يحفظ الكلام ، وفائدة ذلك إعلام أن من وجود الإنسان ليس شيء يليق بالخطاب ، ونزول الأنبياء إلا قلبه ، فكل قلب مسدود بعوارض البشرية لا يسمع خطاب الحق ، ولا يرى جمال الحق.
قال أبو بكر بن طاهر : ما أنزل على قلبه جبريل جعله محلا للإنذار لا للتحقيق ، والحقيقة هو ما يلقفه من الحق ؛ فلم يخبر عنه ، ولم يشرف عليه خلق من الجن والإنس والملائكة ؛ لأنه ما أطاق ذلك أحد سواه ، وما أنزله جبريل جعله للخلق ؛ فقال : (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) بما نزل به جبريل على قلبك لا من المتحققين به ؛ فإنك متحقق بما كافحناك به وخاطبناك على مقام لو شاهدك فيه جبريل لاحترق.
(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١))
قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) (٢٠٥) بيّن سبحانه أن الغفلة والجهلة لا يرون بأبصار قلوبهم أنوار الغيب ، وإن تمادوا في حياة طويلة ؛ لأنها في غشاوة الضلالة.
قال يحيى بن معاذ : أشد الناس غفلة من اغتر بحياته الفانية ، والتذّ بمراداته الواهية ، وسكن إلى مألوفاته ، والله يقول : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ.)
(إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣))
قوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢١٢) وصف أهل الحرمان أن أسماعهم وأبصارهم وعقولهم وقلوبهم في غشاوة الغفلة عن سماع القرآن ، والسامع بالحقيقة الذي له سمع خاصة قلبي عقلي غيبي روحي يسمع في كل لمحة من جميع الأصوات والحركات في الأكوان خطاب الحق سبحانه بحيث يصيح سره بنعت الشوق إليه ، وهذا وصف أهل السماع