يطلع على سوابق علمه في القدم ، فمكره وقهره صفتان من صفاته لا يفارقان من ذاته أبدا ، قد أمر العارف قبل وجود العارف ، ولا يعرفه منه إلا ما أراد منه ، فكلما بقي عنه مستورا ، وهو لا يعرف شأنه حتى وقع عليه ؛ فهو مكر ، ومن يخلو عن مكره نفسا ، وأن قهره مباشر وجوده بنعت الإحاطة ، وحقائقه مندرجة تحت غيوب خواطر القلوب ، وهي أخفى من دبيب النمل ، ولا يعرفها إلا المرادون الواصلون المحفوظون برعاية الأزل والأبد.
قال جعفر الصادق : مكر الله أخفى من دبيب النمل على صخرة سوداء في ظلمة ظلماء.
قال النوري : المعصية لا تخلو من الخذلان ، والطاعة لا تخلو من المكر.
وقال الشبلي : اخترنا طريقة التصوف ؛ سلامة من مكر الله ، فإذا كله مكر.
وقال النوري : المكر لا يعرفه إلا الواصلون ، فأما المريد فإنه لا يعلم ذلك ؛ لأنه في حرقة.
قال ابن عطاء : ما كان منه في القرب ؛ فهو مكر ، وما كان منه في البعد ؛ فهو حجاب.
وقال الشبلي : المكر نعم الظاهر ، والاستدراج نعم الباطن.
وقال الجنيد : المكر هم المشي على الماء ، والمشي في الهواء ، وصدق الوهم ، وصحة الإشارة ، وإجابة الدعاء في كل هذا مكر لمن علم.
وقال النوري : لولا المكر لما طاب عيش الأولياء.
وقال بعضهم : في طريق الله ألف قاطع من قطاع الطريق ، وألف خادع وماكر موكل بالمريد السالك ، ولكل موكل غدر ، ومكر وخداع خلاف الآخر ؛ فإذا حاك السالك غدر الموكل معه بشيء يعطيه يمنعه عن قصده وإرادته ، ويحجبه عن مولاه.
(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨))
قوله تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) بيوت أسرارهم خربت بمباشرة شهوات الطبيعة ، ومتابعة النفس الأمّارة.