نفخ نفخ القهر في ناقور الهيبة حين تلاطمت بحار العظمة اضمحلت الأكوان والحدثان في سطوات عظمة الرحمن ، فهناك أهل معرفته ، ومحبته وشوقه لا يفزعون من رؤية ملك العظائم ؛ لأنهم في أكناف الوصلة مستأنسون بجمال المشاهدة ، وهم المستثنون بقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ) ، وهم الذين (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، وقال : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٣].
ثم بيّن سبحانه أن الكل في ميادين عظمته ، وجلال كبريائه ، يفنون في أنوار سطوات قدمه بقوله : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٨٧).
قال بعضهم : صاغرين خاضعين لعظمته وكبريائه.
(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠))
قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أعلمنا الحق سبحانه من غلبة سلطان عظمته وكبريائه على قلوب الخليقة يوم القيامة بحيث لا يعلمون انقلاب الكون من صولة شهود عظمته على وجوههم ، وأيضا هذا وصف العارفين في طيران أرواحهم إلى الملكوت بأجنحة أنوار الجبروت حين أشباحهم مستقيمة في نعوت الخليقة في مقام العبودية.
قال ابن عطاء : الإيمان ثابت في قلب العبد كالجبال الرواسي ، وأنواره تخرق الحجب الأعلى.
قال جعفر : ترى الأنفس جامدة عند خروج الروح ، والروح تسري في القدس لتأوي إلى مكانها من تحت العرش.
وقال جعفر الصادق : نور قلوب الموحدين ، وانزعاج أنين المشتاقين (تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) حتى يشاهدوا الحق ؛ فيسكنوا.
قال جعفر الخلدي : حضر الجنيد مجلس السماع مع أصحابه وإخوانه ، فانبسطوا وتحركوا ، وبقي الجنيد على حاله لم يؤثر فيه ، فقال له بعض أصحابه : ألا تنبسط كما انبسط إخوانك؟ فقال الجنيد : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ.)
قال الأستاذ : كثير من الناس اليوم من أصحاب التمكين الساكنين بنفوسهم السائحين