العصر بعد الغروب فندم.
(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢))
(فَقالَ) اعترافا بذنبه (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) أي الخيل وسميت به ، لأن الخير معقود بنواصي الخيل ، قوله (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) يتعلق ب (أَحْبَبْتُ) بتضمين فعل يتعدى (١) ب (عَنْ) ، أي اشتغلت حب الخيل عن ذكر ربي ، يعني صلوة العصر (حَتَّى تَوارَتْ) الشمس (بِالْحِجابِ) [٣٢] أي غابت ، وفي إضمار الشمس دليل في الكلام ، وهو ذكر العشي.
(رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))
قوله (رُدُّوها عَلَيَّ) استئناف ، تقديره : فماذا حال سليمان عند فوت الصلوة باشتغال الدنيا في حال كونه نبيا من أنبياء الله؟ فأجيب به وهو يتعلق بمحذوف ، أي قال سليمان لخدمه ردوا الخيل إلي فردت عليه (فَطَفِقَ) يمسح (مَسْحاً) بالسيف (بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) [٣٣] جمع الساق والعنق ، أي يضربها ويقطعها به ، قيل : ذبحها للأكل صدقة ، وإنما قطع أرجلها لأن ذلك كان مباحا في ذلك الوقت ، وفعله استهانة بمال الدنيا لمكان فرض الله تعالى (٢) ، روي : أنه قتل منها تسعمائة فرس وهي التي عرضت عليه وبقي مائة لم تعرض عليه ، فجميع خيل الدنيا من تلك المائة (٣).
(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤))
(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي ابتليناه بعد ما غزا صيدون مدينة حصينة كانت في البحر وقتل ملكها وأخذ بنتها الجرادة فاصطفاها لنفسه لحسنها وكانت لا يرقأ دمعها حزنا على أبيها ، فعملت تمثال أبيها في بيتها باذن سليمان وكانت تسجد له مع جواريها بكرة وعشيا أربعين يوما فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ، ثم خرج إلى الخلاء للطهارة ووضع خاتمه عند أم ولد له اسمها أمينة كما كانت عادته من قبل ، وكان ملكه في خاتمه فأتاها صخر الجني في صورة سليمان فأعطته الخاتم فلبسه وجلس على كرسي سليمان يحكم بين الناس ، وعكف عليه الطير والجن والإنس ، وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته وكان يدور على البيوت يتكفف ، وإذا قال أنا سليمان حثوا عليه التراب ، ثم جاء إلى الصيادين يخدمهم كل يوم بسمكتين يشتري خبزا بالواحدة ويأكله بالأخرى ، فيوما شق بطن إحديهما فوجد فيه الخاتم الذي ألقاه الجني في البحر ، لأن علماء بني إسرائيل أنكروا حكم الجني لما سمعوا من نساء سليمان أنه يدخل بهن حالة الحيض ولا يغتسل من جنابته فأحدقوا به وقرأوا التورية فطار الجني وألقى الخاتم في البحر وابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان ، فلما تختم به وقع ساجدا لله ورجع إليه ملكه وجاب صخرة لصخر الجني فجعله فيها وأوثقها بالحديد والرصاص وقذفه في البحر ، وكانت فتنته بعد عشرين سنة من ملكه وملك بعدها عشرين سنة (٤) ، فالمعنى : اختبرنا سليمان بزوال ملكه (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) وهو صخر الجني حاكما بين الناس والجسد في اللغة بالبدن الذي لا يأكل ولا يشرب ، وقيل : نفذ حكمه في
__________________
(١) يتعدى ، ح و : ـ ي.
(٢) أخذه عن السمرقندي ، ٣ / ١٣٥ ؛ والبغوي ، ٤ / ٦٠٤ مختصرا.
(٣) ولم أجد له مرجعا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.
(٤) اختصره المؤلف من البغوي ، ٤ / ٦٠٥ ـ ٦٠٨ ؛ والكشاف ، ٥ / ١٤٢ ـ ١٤٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ١٣٦. وقال الزمخشري : «ولقد أبى العلماء المتقون قبوله ، وقالوا هذا من أباطيل اليهود والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل ..». انظر الكشاف ، ٥ / ١٤٣. وقال ابن كثير بعد أن حكى مثل هذه الراية : «إسناده إلى ابن عباس قوي ، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس ـ إن صح عنه ـ من أهل الكتاب ... وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين ، وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب ، والله أعلم بالصواب». انظر تفسير القرآن العظيم ، ٧ / ٦٠. وقال ابن كثير أيضا : «ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من المفسرين ههنا آيارا كثيرة عن جماعة من السلف ، وأكثرها أو كلها متلقاة من الإسرائيليات ، وفي كثير منها نكارة شديدة». انظر البداية والنهاية ، ٢ / ٢٤.