قوله جل ذكره : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤))
الإشارة من هذا إلى أهل الغفلة ؛ يعارضون أصحاب القلوب فيما يجرى من الأمور ، بما تشوّش إليهم نفوسهم ، ويخطر ببالهم من هواجسهم عن مقتضى تفرقة قلوبهم ـ على قياس ما يقع لهم ـ من غير استناد إلى إلهام ، أو اعتماد على تقدير من الله وإفهام.
وأهل الحقائق ـ الذين هم لسان الوقت ـ إذا قالوا شيئا أو أطلقوا حديثا ، فلو طولبوا بإقامة البرهان عليه لم يمكنهم ؛ لأن الذي يتكلم عن الفراسة أو عن الإلهام ، أو كان مستنطقا فليس يمكن لهؤلاء إقامة الحجة على أقوالهم (١). وأصحاب الغفلة ليس لهم إيمان بذلك ، فإذا سمعوا شيئا منه عارضوهم فيهلكون ، فسبيل هؤلاء الأكابر عند ذلك أن يسكتوا ، ثم الأيام (٢) تجيب أولئك.
قوله جل ذكره : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦))
يقول : إذا سوّلت لكم أنفسكم تكذيب الرسول فأنعموا النظر .. هل ترون فيه آثار ما رميتوه به؟ هذا محمد صلىاللهعليهوسلم .. قلتم إنه ساحر ـ فأين آثار السحر
__________________
(١) انظر ص ٣٤٨ من المجلد الثاني من هذا الكتاب.
وقد يظن أن هذا محل طعن فيما يصدر عن المعارف من أقوال وأحوال ، والواقع أن مرد عجز العارف عن إقامة الحجة إلى أن ما ينثال عليه من كشوفات ليس من تدبيره أو احتياله ، ولا نتيجة مهارته أو ذكائه ... وإلا كان مطلوبا منه أن يسوق حجة أو يقدم برهانا .. إنما هي أنوار إلهية تنبجس في عالمه الباطن .. وليست تجربة الإمام الغزالي إلا نموذجا للعارف الذي نهل من العلوم العقلية قدرا عظيما ، ولكن ذلك لم يهدىء سورة غليله ، ولم يقده إلى الراحة والسكينة .. حتى قيض الله له في علوم القوم ما شفاه وكفاه (انظر الصفحات الأولى من : «المنقذ من الضلال» للإمام الغزالي).
(٢) هكذا في م وهي في ص (الأنام) ونحن نرجح (الأيام) على معنى أن الدهر كفيل بتوضيح الحقيقة ـ وإن خفيت زمنا.