لم يظهر الله ـ سبحانه ـ آية على رسول من أنبيائه ـ عليهمالسلام ـ إلّا كانت فى الوضوح بحيث لو وضعوا النظر فيها موضعه لتوصّلوا إلى حصول العلم وثلج الصدور ، ولكنهم قصّروا في بعضها بالإعراض عن النظر فيها ، وفي بعضها الآخر عرفوها وقابلوها بالجحد. قال تعالى وقوله صدق :
(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))
وكما يحصل من الكافر الجحد (١) تحصل للعاصى عند الإلمام ببعض الذنوب حالة يعلم فيها ـ بالقطع ـ أن ما يفعله غير جائز ، وتتوالى على قلبه الخواطر الزاجرة الداعية له عن فعلها من غير أن يكون متغافلا عنها أو ناسيا لها ، ثم يقدم على ذلك غير محتفل بها موافقة لشهوته. وهذا الجنس من المعاصي أكثرها شؤما ، وأشدّها في العقوبة ، وأبعدها عن الغفران.
قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥))
يقتضى حكم هذا الخطاب أنه أفردهما بجنس من العلم لم يشاركهما فيه أحد ؛ لأنه ذكره على وجه تخصيصهما به ، ولا شكّ أنه كان من العلوم الدينية ؛ ويحتمل أنه كان بزيادة بيان لهما أغناهما عن إقامة البرهان عليه وتصحيحه بالاستدلال الذي هو معرّض للشك فيه (٢).
__________________
(١) ليس حتما أن يكون جحد الجاحد بعد المعرفة لأن (جحد) بمعنى أنكر ، وقد يكون الإنكار نتيجة جهل بالشيء ، ولكن الواضح أن القشيري يتجه إلى توضيح أسوأ ألوان الجحود ، وهو الذي يحدث بعد المعرفة ، وقد أحسن القشيري حين قابل بين ذلك وبين أسوأ أحوال العاصي ، وهي تلك التي يقدم فيها على المعصية وهو عليم بعاقبتها ، ومع ذلك يعقد النية عليها ، ويفعلها.
(٢) نعلم من مذهب القشيري أن البيان أرقى في المعراج العرفانى من البرهان ، ونجد هنا سبب تفوق البيان على البرهان.