قوله جل ذكره : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))
أي لو كان للجبل عقل وصلاح فكر وسرّ ، وأنزلنا عليه هذا القرآن لخضع وخشع. ويجوز أن يكون على جهة ضرب المثل كما قال : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) (١) ويدل عليه أيضا قوله :
(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) : ليعقلوا ويهتدوا ، أي بذلك أمرناهم ، والمقصود بيان قسوة قلوبهم عند سماع القرآن.
ويقال : ليس هذا الخطاب على وجه العتاب معهم ، بل هو على سبيل المدح وبيان تخصيصه إيّاهم بالقوة ؛ فقال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) لم يطق ولخشع ـ وهؤلاء خصصتهم بهذه القوة حتى أطاقوا سماع خطابى (٢).
قوله جل ذكره : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢))
(الْغَيْبِ) : ما لا يعرف بالضرورة ، ولا يعرف بالقياس من المعلومات (٣). ويقال : هو ما استأثر الحقّ بعلمه ، ولم يجعل لأحد سبيلا إليه.
(وَالشَّهادَةِ) : ما يعرفه الخلق.
وفي الجملة : لا يعزب عن علمه معلوم.
__________________
(١) آية ٩٠ سورة مريم.
(٢) يتصل هذا بموضوع السماع عند الصوفية ، وقد عقد السراج له فصلا ممتعا فى «اللمع» ، ومن أقواله المتصلة بهذه النقطة الى أثارها القشيري يقول السراج : ألا ترى أحدهم يكون ساكنا فيتحرك ويظهر منه الزفير والشهيق ، وقد يكون من هو أقوى منه ساكنا في وجده لا يظهر منه شىء من ذلك (اللمع ص ٣٧٥) ويجيب الجنيد حين سئل عن سكونه وقلة اضطرابه عند السماع : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب).
(٣) أي لا يعرف بالضرورة العقلية ولا بالقياس العقلي لأن العقل يستمد أحكامه من المحسات ، والغيب بعيد عن المحسات ، فلا سبيل للخلق إليه بوسائلهم المحدودة وحدها.