عرّفهم كمال قدرته بدلالات خلقه ، فسمك السماء وأمسكها بلا عمد ، وركّب أجزاءها غير مستعين بأحد في خلقها ، وبالنجوم زيّنها ، ومن استراق سمع الشياطين حصّنها ، وبغير تعليم معلّم أحكمها وأتقنها.
(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) : لا ترى فيما خلق تفاوتا ينافى آثار الحكمة ولا يدل على كمال القدرة.
ويقال : ما ترى فيها تفاوتا ، فى استغنائه عن الجميع .. ما ترى فيها تفاوتا في الخلق ؛ فخلق الكثير واليسير عنده سيّان ، فلا يسهل عنده القليل ولا يشقّ عليه الكثير ؛ لأنه متنزّه عن السهولة عليه ولحوق المشقة به.
فأنعم النظر ، وكرّر السّبر والفكر .. فلن تجد فيها عيبا (١) ولا في عزّه قصورا.
قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥))
زيّن السماء بالكواكب والنجوم ، وزيّن قلوب أوليائه بأنواع من الأنوار والنجوم ؛ فالمؤمنون قلوبهم مزيّنة بالتصديق والإيمان ثم بالتحقيق بتأمّل البرهان ، ثم بالتوفيق لطلب البيان. والعارفون قلوبهم مزيّنة بشمس التوحيد ، وأرواحهم مزيّنة بأنوار التفريد ، وأسرارهم مزينة بآثار التجريد (٢) .. وعلى القياس : لكلّ طائفة أنوار.
(وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) : فمن النجوم ما هو للشياطين رجوم ، ومنها ما هو للاهتداء به معلوم .. فأخبر أن هذا القدر من العقوبة بواسطة الرجوم لا يكفى ، وإنما يعذّبهم مؤبّدين في السعير.
__________________
(١) هكذا في م وهي في ص (عبثا).
(٢) يميز الكلاباذى بين التفريد والتجريد فيقول (ملخصا) :
التجريد : أن يتجرد بظاهره عن الأعراض وبباطنه عن الأعواض ، يفعل ذلك لوجوب حقّ الله تعالى لا لعلة غيره ولا لسبب سواه ، ويتجرد بسره عن المقامات والأحوال التي ينازلها.
والتفريد : أن ينفرد عن الأشكال ، وينفرد في الأحوال ، ويتوحد في الأفعال ويغيب عن رؤية أحواله برؤية محوّلها ولا بأنس بأشكاله ولا يستوحش (التعرف ص ١٣٣).