لم يرد مكافأة منهم (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) : لم يقل : فلما جاءه قدّم السّفرة (١) بل قال : وقصّ عليه القصص .. وهذا طرف من قصته.
ويقال : ورد بظاهره ماء مدين ، وورد بقلبه موارد الأنس والرّوح. والموارد مختلفة ؛ فموارد القلب رياض البسط بكشوفات المحاضرة فيطربون بأنواع الملاطفة ، وموارد الأرواح مشاهد الأرواح فيكاشفون بأنوار المشاهدة ، فيغيبون عن كل إحساس بالنّفس ، وموارد الأسرار ساحات التوحيد .. وعند ذلك الولاية لله ؛ فلا نفس ولا حسّ ، ولا قلب ولا أنس .. استهلاك في الصمدية وفناء بالكلية!.
ويقال كانت الأجنبية والبعد عن المحرميّة يوجبان إمساكه عن مخاطبتهما ، والإعراض والسكون عن سؤالهما .. ولكن الذي بينهما من المشاكلة والموافقة بالسّرّ استنطقه حتى سألهما عن قصتهما ، كما قيل :
أجارتنا إنّا غريبان هاهنا |
|
وكلّ غريب للغريب نسيب |
ويقال : لمّا سألهما وأخبرتا عن ضعفهما لزمه القيام بأمرهما ؛ ليعلم أنّ من تفقّد أمر الضعفاء ووقف على موضع فاقتهم لزمه إشكاؤهم.
ويقال من كمال البلاء على موسى أنّه وافى الناس وكان جائعا ، وكان مقتضى الرّفق أن يطعموه ، ولكنه قبض القلوب عنه ، واستقبله من موجبات حكم الوقت أن يعمل عمل أربعين رجلا ؛ لأن الصخرة التي نحّاها عن رأس البئر ـ وحده ـ كان ينقلها أربعون رجلا ، فلمّا عمل عمل أربعين رجلا ، تولّى إلى الظّلّ ، وقال : إن رأيت أن تطعمنى بعد مقاساة اللتيا والتي .. فذلك فضلك!.
قال ذلك بلسان الانبساط ، ولا لسان أحلى من ذلك. وسنّة الشكوى أن تكون إليه لا منك .. بل منه إليه (٢).
__________________
(١) السفرة طعام يصنع للمسافر ، أو مائدة وما عليها من طعام.
(٢) لأنك بلا أنت ، فبالضرورة ليس منك شكوى ، فعل الحقيقة لا وجود إلا له ، فاتركه ممسكا بعنانك ، واستسلم لما يختار ، ولن يكون إلا الخير.