وبينهما فرق ظاهر ، ففي الأوّل يعلم بالآثار أنّ له مولى عالما قادرا رءوفا رحيما ، وفي الثاني يصل إليه ويخاطبه ويأنس به ، وإن لم يره ببصره ولم يعلم له كيفية.
كما هو ظاهر قوله عليهالسلام : ولو لا ذلك لم يعرف أحد من خالقه ولا من رازقه (١).
ومما يظهر منه أنّه ليس من جهة الاستدلال العقلي ولا من جهة أنس الذهن : تجلّيه تعالى بالوحدانيّة على قلوب المشركين ، كما دلّت عليه الآيات المتقدّمة ، فإنّه خلاف ما أنسوا به من الشرك كما مرّ.
تنبيه وتفريع
ثبوت هذه الحقيقة ـ أي المعرفة الوجدانيّة التي فطر الناس عليها ـ أوجب سهولة الأمر على الأنبياء في إتمام الحجة على اممهم في مقام الدعوة إلى الله وإلى توحيده. ولعلّه ملاك قتل المشركين بمجرد الدعوة إلى الله تعالى وإلى توحيده ، وإظهار الشرك منهم ، وملاك صحة إيمان الأطفال بمجرد بلوغهم وإن لم يكونوا على حدّ يصلح الاستدلال العقلي لهم ، وصحّة إيمان النساء والرجال الذين لا يتيسّر لهم الاستدلال من طريق العقل ، كما قامت عليه السيرة.
والحاصل أنّه لا يحتاج ـ في صحة الإيمان بالله تعالى وبتوحيده لو آمنوا ، وفي ثبوت الكفر بترك الإيمان ـ إلى سبق الاستدلال العقلي العاجز عنه كثير من الناس.
نعم ، حكم العقل والاستدلال به مؤكّد للحجة على الكفار ، وقاطع آخر للاعتذار ، ولو أظهر أحد الشك أو شك واقعا لأجل خفاء هذه الفطرة بسبب من الأسباب فإنّه هو الذي يحتاج إلى الاستدلال العقلي من طريق العقل. وإلا فالأصل الأصيل الذي يكتفى به في عرفان الربّ تعالى شأنه والإيمان به المعرفة الفطرية.
__________________
(١) راجع ص ١١٥.