الدعاء : يا من أذاق أحبّاءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملّقين (١).
مما يظهر للإنسان في تلك المكاشفة التي صرّح بها في الآيات المتقدمة مباينته لمن يتوجّه إليه ، ومغايرته بلا عزلة ، لا الوحدة التي يزعمها الصوفية حتى أكابرهم المسمّون بالشامخين ، كيف وهو يرى نفسه سائلا ، عاجزا ، ذليلا ، مسيئا ، مقصّرا. ويرى محبوبه الذي يسأله ويتضرع إليه قادرا ، قاهرا ، منزّها ، غفورا ، وهكذا.
وما في كلماتهم ومن يحذو حذوهم في هذا المقال من دعوى الفناء في الله ، إن كان المراد هو نفي الإنّيّة والميز واقعا ، كما في فناء القطرة واستهلاكها في البحر عند وصولها إليه ، فهذا ـ مضافا إلى امتناعه ذاتا ، لما مرّ من المباينة التامّة بين المخلوق الحادث واقعا لا من شيء الذي حقيقته الشيئية بالغير والظلمة ، وبين الذات الأزلي الأبدي ، القائم بذاته ، الشيء بحقيقة الشيئية ، والنور المحض ـ مخالف لما نجده من أنفسنا في حال المكاشفة الحاصلة لنا في بعض عباداتنا وفي حال البأساء والضراء المذكورة في غير واحدة من الآيات والروايات المباركات المتقدم ذكرها ، ولا أثر منه في كلام المعصومين الذين هم أعرف الخلق بالله تعالى شأنه ، بل التعبيرات المروية عنهم صريحة في المباينة والغيرية الحقيقية. وكذلك لفظ الوصول واللقاء وأمثالهما ظاهر في وصول الحبيب إلى حبيبه ولقائه إيّاه لا الاندكاك والاستهلاك والفناء فيه.
وإن كان المراد هو الاعتقاد ورؤية نفسه أنها كذلك ـ كما هو ظاهر كلمات بعضهم ـ فمرجعه إلى اعتقاد أنّ حقيقته ليست إلاّ الوجود الحقّ المتعيّن. ووجه عروض تلك الحالة على الإنسان ليس إلاّ غمض العين عن تعيّن نفسه وسائر التعيّنات ، وعطف توجهه إلى صرف الوجود الذي توهّموا أنّه الحق المتعالي ، وهذا معلول التلقينات الباطلة التي لا حقيقة لها أصلا ، وليست مكاشفاتهم إلاّ تجلّي ذلك الاعتقاد وتلك الحالة عند اشتغالهم بالذكر ، وفي مناماتهم التي يسمّونها بالواقعة ، وظاهر أنّ المنام بعضه أضغاث أحلام ، ولذا
__________________
(١) البحار ٩٨ : ٢٢٦ ، عن الإقبال ( دعاء يوم عرفة ).