ثم إنّ إحداث ماهيات جميعها في أذهاننا وأوهامنا بالقدرة التي أعطانا الله على تصوير ماهيات الأشياء ـ وبعبارة اخرى : إيجاد صورها عند أنفسنا ـ هو أيضا من شواهد مصنوعيتها ، أي مصنوعيّة كلّ ما يمكن تصوره ، كما نبّه عليه الإمام الباقر صلوات الله عليه : كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم ومردود إليكم (١).
بداهة أن ليس المراد من الخبر إثبات مصنوعية نفس الصورة الذهنية ، بل المراد إثبات مخلوقيّة كل ما يمكن تصوّره وتكون الصورة الذهنية حاكية عنه ومثالا له. وبعبارة أخرى : إثبات أنّ كل ما تشاهده الحواسّ الظاهرة أو يتصوّر بالحواس الباطنة سنخ المخلوق المصنوع الحادث.
ومتى ظهرت له مصنوعيّة الأشياء جميعها فلا بدّ له من التصديق والإذعان لمطلب ثان وهو أنّ للأشياء صانعا وإن لم يعلم من هو ، وما هو ، وفي أيّ زمان صنعها.
وسنذكر قريبا التنبيه على هذا المطلب الثاني في غير واحدة من الآيات والروايات.
ثم يتذكر بأنّ فيها من بدائع الخلق ولطائف الصنع ودقائق التدبير ووجوه المصالح والحكم والنظم الحاكم فيها آثارا تكشف عن علم صانعها وخالقها وقدرته وقوته وعظمته وحكمته ولطفه ووحدته وسائر كمالاته.
مضافا إلى أنّ بعض هذه المخلوقات كأفراد الإنسان له العلم والمعرفة بالدقائق واللطائف ، والقدرة والاختيار والحكمة والجود والكرم والرحمة وسائر أوصاف الجمال باختلاف درجاتها. فيتذكر بأنّها أنوار وكمالات خارجة عن حقيقة ذاته ، كما مرّ مرارا ، يجدها تارة فيعلم ويختار وهكذا ، ويفقدها أخرى فيجهل ويعجز كما هو مقتضى ذواتنا.
فهذه آيات أخرى نوريّة لعلم واهبها وقدرته وسائر كمالاته ، كما كانت ذوات المخلوقات آيات ظلمانية مشيرة تكوينا بوصف مصنوعيّتها ومخلوقيّتها إليه تعالى وإلى كمالاته.
وأمّا المطلب الثاني فالقرآن المجيد مشحون بالتنبيه عليه ، نذكر هنا طرفا منها إن
__________________
(١) كتاب الأربعين للشيخ البهائيّ ١٧.