القرينة الثالثة :
قالَ ( عمرُ ) : ( إني أرى لو جمعتُ هؤلاءِ على قارئ واحدٍ لكانَ أمثل ) ، فهذا القولُ صريح بوجود عملية تشريع شخصي جديد في مقابل السُنَّة النبوية الثابتة ، مما لا يجعلُ مجالاً للشك في إرادة المعنى الشرعي المألوف.
وخلاصةُ القول أنَّ العودةَ بالكلمة المنقولة شرعاً الى المعنى اللغوي العام لها عند الاستعمال يحتاجُ إلى قرينة تصرفُ اللفظَ عن معناه المنقول إلى المعنى المهجور.
ولتوضيح الفكرة نوردُ لها مثالاً ، فلو قالَ شخصٌ لآخر : ( لقد صليتُ اليومَ في المسجد ) ، فلاشك أنَّ السامعَ سوف يفهمُ من كلامه أنَّه أدَّى الصلاةَ المألوفة من قيام ، وركوع ، وسجود ، وهذا هو المعنى المتبادرُ من لفظ ( الصلاة ) في ذهنية المسلمين ، أمّا لو قالَ : إني أردتُ من قولي ذاك المعنى اللغوي للصلاة ، أي انِّي دعوتُ الله ( جَلَّ وعَلا ) وحسب ، ولم أكن أقصدُ الصلاةَ المألوفة ، فإنَّ كلامَه لا يكونُ مقبولاً ، ويقالُ له كانَ الأحرى بك أنْ تنصبَ قرينةً تشيرُ إلى المعنى اللغوي.
ويزدادُ الأمرُ أهميةً فيما لو ترتبَ على المعنى أثرٌ معين ، فلو طلبَ شخصٌ من آخر أن يصليَ عن والده المتوَفَّى مقابلَ أجرٍٍ معين ( بناءً على القول بصحة الإجارة في العبادات عن الأموات ) ، وقالَ له : ( خذ هذا المالَ وادخل المسجدَ وصلِّ عن روح والدي ما تستطيع ) ، فأخذَ الأجيرُ المالَ ، ودخلَ المسجدَ ، وجلسَ برهةً ثمَّ خرج منه ، فعاتبه صاحبُ المال بأنَّه لم يره يقومُ ويقعدُ ويركعُ ويسجدُ ، فأجابه الأجيرُ قائلاً : ( إني فهمتُ المعنى اللغوي للصلاة وهو الدعاء ، ولم أفهم المعنى الشرعي لها ) ، فلا شك في أنَّ هذا التبرير أمرٌ غيرُ مقبول ، لأنَّ المعنى اللغوي للصلاة وهو ( الدعاء ) أصبحَ مهجوراً ، ولا بدَّ من إقامة القرائن في حال قصده وإرادته.