البحث والدراية.
أمّا الطريقة الجديدة التي اتبعت بعد القرن الثالث فبدأت بإخراج المسائل الفقهيّة من قالب الرواية والحديث وإيراد السّند إلى صورة الفتوى فكان الفقيه بدل أن يروى للناس في كل حكم رواية أو روايات ، يعمد إلى استنباط الحكم منها حسب فهمه ثم يعرضه كفتوى على من استفتاه أو من قلّده في دينه. وقد يقال إنّ أول من سلك هذه الطّريقة وفتح هذا الباب على الناس في المذهب الإمامي هو أبو الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي ، المتوفّى عام ٣٢٩ ه ، والد المحدث والفقيه الكبير الشيخ الصدوق حيث أبرز فتاويه في رسالته إلى ولده التي أورد كثيرا من ألفاظها الشيخ الصدوق في كتبه الفقهية : كالفقيه والمقنع والهداية وبعد علي بن بابويه تأسى الآخرون به وألفوا في الفقه على منواله وفي طليعتهم ولده الشيخ الصدوق في الكتب المذكورة ولا سيّما المقنع والهداية وطبعا لا يعنى هذا القول أنّه توقّفت عمليّة نقل الحديث وجمع الروايات الفقهيّة والسّير الصعودي فيها في الفترة الجديدة اكتفاء بإيراد الفتاوى بل الأمر بالعكس فنجد العلماء لم يتركوا الطّريقة القديمة بل توسّعوا فيها وأتقنوا العمل في جمع الأحاديث ، وساروا في ذلك مع الزمن إلى يومنا هذا ، مع أنّ هذا الفن من العلم كغيره من الفنون تعرض خلال العصور تارة إلى التألّق والتقدم وأخرى إلى الركود والتأخر. ولكن مع كلّ هذا لم يتوقّف رأسا ولن يتوقّف ما دام باب الفقه والاجتهاد مفتوحا. إذ الحديث ليس سوى كلام الرسول والأئمة ونص فتاويهم ، وهو بعد القرآن يعتبر أكبر مصدر للفقه. بل حاجة الفقه في الفروع والأحكام الجزئية إلى الروايات أشدّ من حاجته إلى القرآن الكريم الحاوي لأصول الاحكام وكلّياتها ، دون الفروع الحادثة مع الزمن التي عنونت في خلال الأحاديث. ونحن نعلم أنّ تشخيص صحيح الحديث عن سقيمه لا يتيسر إلّا بالنظر إلى السّند. فالفقيه مهما بلغ من رفض التقليد ، والاستقلال بالرأي في المسائل الفقهية ، وعدم التسليم لرأي غيره من الفقهاء فلا يستغني في وقت من الأوقات عن الحديث والرجوع إليه. ولن يتخلى عن مراجعة كتب الحديث فلا يسد باب التأليف في الحديث أبدا. وهكذا رأينا أنّهم بعد هذه الانطلاقة الجديدة بدأوا بتدوين المجامع الكبيرة والمعتبرة عند الشيعة التي من جملتها الكتب الأربعة المشهورة ، حيث ظهرت كلها في الفترة الجديدة من الفقه إلّا أن هذا النوع من الفقه أي الفقه المستند ينبغي أن يعدّ نوعا من الفقه في الفترات المتأخرة ، أما قبل تلك الفترة الحادثة فقد كان الفقه عند الشيعة الإمامية منحصرا في الفقه الحديثي أو الفقه المأثور فلو فرض وجود أشكال أخرى من الفقه حين ذاك ، فإنما كانت