لا تتجاوز الدرس والمحاورة إلى التأليف والتصنيف. ولو كانت موجودة فبشكل نادر وخاص بمسائل محدّدة وهي التي كانت مدار نقاش بين الشيعة والسّنة أو بين الشيعة أنفسهم والتي خرجت عن كونها مسألة فقهية بحتة وتجلببت جلباب الكلام. وكيف كان فلم يصلنا منه شيء ملحوظ.
وفي بداية التحول الجديد خرج الفقه من صورة الرّواية واتّخذ شكل الفتوى ، وهذا من غير شك يحكي عن توسع الفكر ورفض الجمود الفقهي وهو بذاته يعتبر جرأة علمية وثورة على العادة المتبعة والطريقة التقليدية عند القدماء ، وقد دونت تلك الفتاوى ولكن بنفس الوقت كانوا يراعون جانب الاحتياط فيوردون الفتوى بنفس الألفاظ الصادرة عن مصادر التشريع ، فكانت ألفاظ الروايات تذكر بدون ذكر السند أو الانتساب إلى الامام ، فهذا أوّل الشوط في هذا المضمار ، ولهذا تعتبر الكتب المؤلّفة على هذا الطّراز كرسالة علي بن بابويه إلى ولده الصدوق ، وبعض كتب الصدوق نفسه كالمقنع نصوصا حديثية ، وكانت طريقة القدماء الرجوع إليها كنص صدر من لسان الإمام إذا لم يعثروا على رواية أو نصّ آخر موثوق به. وعلى حدّ تعبير بعضهم يرجعون إليها « عند إعواز النّصوص » ونحن نسمّي هذا النوع من الفقه « الفقه المنصوص » وعلى حدّ تعبير الأستاذ الكبير آية الله البروجردي رضوان الله تعالى عليه : « المسائل المتلقاة ».
لكن الفقهاء مع الأيام توسعوا وأبرزوا جرأة أكثر من ذي قبل ، فرفضوا قيود الألفاظ وهدموا حصار الاحتياط ، وتحرّروا من الوساوس فبدءوا بالدّقة في الروايات وعرض بعضها على بعض ، وإخراج المسائل المستنبطة من مجموع الرّوايات والنصوص المعتبرة لديهم ، بألفاظ تعبر عن فتاويهم وآرائهم من دون تقيّد بألفاظ النّصوص. وهذه المرحلة من الفقه ينبغي تسميتها والتعبير عنها ب « الفقه المستنبط » أو بضمها إلى المرحلة السابقة عليها فتسميان جميعا بالفقه المنصوص ، لأنّ الفقه مع هذا التوسّع بالبالغ بعد لم يكن خارجا عن نطاق النّصوص في محتواه وإن كان خارجا وعاريا من ألفاظ النّصوص.
وفي نفس الوقت أو بعده بقليل نرى تقدّما ملحوظا نحو الاجتهاد بشجاعة بالغة ، وسعي مشكور ، وجهد مترقّب ، ودراية كافية أبرزها رجال ذلك العصر ومن جملتهم بل في طليعتهم مترجمنا الشيخ الطوسي رضياللهعنه وعنهم. وهو أنّهم خرجوا عن حدود الفقه المنصوص ، واعتمدوا على أساس القواعد الكلّية والنّصوص العامة من الكتاب والسنة ، بالإضافة إلى الأدلة العقلية ، والأسس المحرّرة في علم أصول الفقه ، فخاضوا في الفروع المستحدثة ، والحاجات اليوميّة التي تمر على الناس مما لم يرد في النصوص ، ولم يعنون في