عليهم لم يفهم منه إلّا مَنْ على يساره ممّن هو مؤتمّ بإمامه ، ولو كان بعموم ظاهره لدخل فيه الكافر ، بل والحيوان ، وهذا باطل بالضرورة ، ولو كان ذلك حقّا لدلّ عليه الشارع ولصرّح به بعض نوّابه ، بحيث يظهر القائل به في كلّ زمان ، ولم يظهر لي دلالة عليه ، ولا قائل به غير هذا الفاضل ، وهو اعلم بما قال.
وقوله بعد هذا : قوله : ( وإن كان مخرجاً عن العهدة ) (١) ؛ لأن العبادات اللفظيّة لا يقصد بها إلّا الألفاظ ، إلّا إذا دلّ دليل على إرادة المعنى معها ؛ وذلك لأنه إن اعتبر المعنى لزم الحرج العظيم على العالمين بمعانيها ، فضلاً عن الجاهلين ، ولذا لم يشترط في أصل الصلاة التوجّه إلى المعاني والإقبال عليها ، ففي التسليم الموضوع للخروج منها بطريق أوْلى لا يخلو من منافرة لظاهر ما قبله ، على أنا أيضاً نمنع إجزاء مجرّد تلاوة الألفاظ من غير قصد معانيها مع القدرة على معرفتها ، وإلّا لَمَا ذمّ الله من لا يتدبّر القرآن ، ولَمَا شبّه من لا يتدبّره بالحمار يحمل أسفاراً.
وبالجملة ، فالأخبار الدالّة على وجوب قصد معاني ما تعبّد الله به عباده من الألفاظ من القادر على معرفتها أكثر من أن تحصى في كتاب. نعم ، من لم يستطع لذلك يكفي تعبّده بتلاوة اللفظ ؛ لأنه لا يسقط الميسور بالمعسور (٢) ، و ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (٣) ، وإنما يداقّ (٤) الله الناس على قدر عقولهم (٥) ، أمّا مَنْ أعطاه الله عقلاً يدرك به ما خاطبه به مولاه ويعرف به مراده منه فأهمل ذلك فقد كفر النعمة واستحقّ النقمة ورضي بالدون فهو المغبون ، والناس في المعارف يتفاضلون ولكلّ نصيب سؤله من مولاه بلسان اختيار قابليّته ، ولو عجز إنسان عن دَرْك بعض وقدر على دَرْك بعض وجب عليه ما قدر عليه ، وسقط عنه ما عجز عنه.
__________________
(١) الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ( المتن ) ١ : ٢٨٠.
(٢) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ / ٢٠٥ ، وفيه : « لا يترك » بدل : « لا يسقط ».
(٣) البقرة : ٢٨٦.
(٤) المُداقّة : هي أن تداقّ صاحبك في الحساب وتناقشه فيه. مجمع البحرين ٥ : ١٦٢ دقق.
(٥) الكافي ١ : ١١ / ٧ ، بالمعنى.