ظلّا ظليلا! وتعفّف عن أخذ ما يتحصّل من مشهد السيّدة نفيسة من النّذور من شمع وزيت وغيرهما ، وصرفه إلى مصالح المكان من عمارة وغيرها. وكان الخلفاء قبله يأخذون لأنفسهم غالبه ، والباقي يفرّقونه على من شاؤوا من ألزامهم (١) ، فرفع ذلك من أصله.
فصل
قال ابن فضل الله في المسالك : إنّ قاعدة الخلافة أوّل ما كانت المدينة شرّفها الله مدّة أبي بكر وعمر وعثمان ، فلمّا انتهت الخلافة إلى عليّ انتقل من المدينة إلى الكوفة ، واتّخذها قاعدة خلافته ، وربّما استوطن البصرة ، وجاء ابنه الحسن والكوفة قاعدة خلافته على ما كان عليه أبوه ، فلمّا ولي معاوية انتقلت قاعدة الخلافة إلى دمشق ، واستقرّت قاعدة لبني أميّة ؛ وإن كان هشام قد سكن الرّصافة (٢) ، وعمر بن عبد العزيز خناصرة (٣) ، فإنّهما لم يكونا قاعدتي خلافة ، لأنّهما سكناهما غير مفارقين لدمشق ، بل هي القاعدة والمعتمدة بأنّها مستقرّ الخلافة ، ولم تزل كذلك إلى آخر الدولة الأمويّة. فلمّا ملك السفّاح سكن الأنبار ، فلما ولي المنصور بني الهاشميّة وسكنها ، ثمّ بغداد ، فصارت قاعدة الخلافة له ولبنيه إلى المعتصم ؛ فبنى سرّ من رأى ، فانتقلت قاعدة الخلافة إليها. ثمّ بنى ابنه هارون الواثق إلى جانبها الهارونيّة ، فانتقلت قاعدة الخلافة إليها. ثمّ بنى أخوه جعفر المتوكّل إلى جانبها الجعفريّة ، فانتقلت الخلافة إليها ، ثمّ عادت قاعدة الخلافة إلى بغداد في زمن المعتمد إلى المستعصم الّذي قتلته التتار ، فانتقلت قاعدة الخلافة إلى مصر.
قال : فانظر كيف تنقّلت قواعد الخلافة من بلد إلى بلد بتنقّل الزمان ، وقد كانت بخارى قاعدة السلطنة زمن بني ساسان ، ثمّ صارت غزنة مكان محمود بن سبكتكين (٤) وبنيه ، ثمّ همدان زمان الدولة السلجوقيّة ، ثم خوارزم مكان الملوك الخوارزميّة ، ثم
__________________
(١) لعلّ الصواب : أزلامهم.
(٢) في معجم البلدان : الرصافة : رصافة هشام تقع غربي الرقّة بينهما أربعة فراسخ.
(٣) في معجم البلدان : خناصرة : بليدة من أعمال حلب تحاذي قنّسرين نحو البادية.
(٤) كان أبوه أميرا للغزاة الذين يغيرون من بلاد ما وراء النهر عل أطراف الهند ، أما هو فافتتح غزنة ثم بلاد ما وراء النهر ثم خراسان ، ولد سنة ٣٦١ ه وتوفي سنة ٤٢١ ه. [شذرات الذهب : ٣ / ٢٢٠].