وولي بعده الشيخ تقيّ الدين (١) بن دقيق العيد بعد امتناع شديد ، حتّى قالوا له : إن لم تفعل ولّوا فلانا أو فلانا ـ لرجلين لا يصلحان للقضاء ـ فرأى أنّ القبول واجب عليه حينئذ. ذكره الإسنويّ في الطبقات. قال ابن السبكيّ : وعزل نفسه غير مرّة ثمّ يعاد. قال الإسنويّ : وكانت القضاة يخلع عليهم الحرير ، فامتنع الشيخ من لبس الخلعة ، وأمر بتغييرها إلى الصوف ، فاستمرّت إلى الآن. وحضر مرّة عند السلطان لاجين (٢) ، فقام إليه السلطان ، وقبّل يده ؛ فلم يزده على قوله : أرجوها لك بين يدي الله. وكان يكتب إلى نوّابه ، ويعظهم ويبالغ في وعظهم ، ومع ذلك رآه بعض خيار أصحابه في المنام وهو في مسجد ، فسأله عن حاله ، فقال : أنا معوّق هاهنا بسب نوّابي. هذا مع الاحتراز التامّ والكرامات الصحيحة الثابتة عنه. فهذا كلّه كلام الإسنويّ.
ومن لطائفه ما كتب إلى نائبه بإخميم : صدرت هذه المكاتبة إلى مجلس مخلص الدّين ، وفقه الله تعالى لقبول النصيحة ، وآتاه لما يقربه إليه قصدا صحيحا ونيّة صحيحة ، أصدرناه إليه بعد حمد الله الّذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ويمهل حتّى لا يلتبس الإمهال بالإهمال على المغرور ؛ ونذكّره بأيّام الله (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧] ، ونحذّره صفقة من باع الآخرة بالدنيا فما أحد سواه مغبون ؛ عسى الله أن يرشده بهذا التّذكار وينفعه ، وتأخذ هذه النصائح بحجزته عن النار ؛ فإني أخاف أن يتردّى فيخرّ من ولّاه معه. والعياذ بالله. والمقتضي لإصدارها ما لمحناه من الغفلة المستحكمة على القلوب ، ومن تقاعد الهمم ممّا يجب للربّ على المربوب ، ومن أنسهم بهذه الدّار وهم يزعجون عنها ، وعلمهم بما بين أيديهم من عقبة كؤود وهم لا يتخفّفون منها. ولا سيّما القضاة الذي تحمّلوا أعباء الأمانة على كواهل ضعيفة ، وظهروا بصور كبار وهمم نحيفة ، وو الله إنّ الأمر عظيم ، والخطب جسيم ؛ ولا أرى مع ذلك أمنا ولا قرارا ، ولا راحة ولا استمرارا ، اللهمّ إلا رجلا نبذ الآخرة وراه ، واتخذ إلهه هواه ، وقصر همّة وهمّته على حظّ نفسه ودنياه ، فغاية مطلبه حب الجاه. والرغبة في قلوب الناس وتحسين الزيّ والملبس ، والرّكبة والمجلس ، غير مستشعر خساسة حاله ولا ركاكة مقصده ، فإنّك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور.
فاتّق الله الّذي يراك حين تقوم ، واقصر أملك عليه فإنّ المحروم من فضله غير مرحوم ، وما أن وإيّاكم أيّها النفر إلّا كما قال حبيب العجميّ وقد قال له قائل : ليتنا لم نخلق! قال : قد وقعتم فاحتالوا!
__________________
(١) شذرات الذهب : ٦ / ٥.
(٢) تسلطن سنة ٦٩٦ ه. النجوم الزاهرة : ٨ / ٧٢.