وإن خفي عليك مثل هذا الخطر ، وشغلتك الدنيا عن معرفة الوطر ، فتأمّل كلام النبوّة : «القضاة ثلاثة قاض في الجنّة وقاضيان في النار» ، وقول النبي صلىاللهعليهوسلم لأبي ذرّ مشفقا عليه : «لا تأمّرنّ على اثنين ولا تولّين مال يتيم» ، وما أنا والسير في متلف مبرّح بالذّاكر الضابط ، هيهات جفّ القلم ، ونفذ حكم الله ، فلا رادّ لما حكم. إيه ، ومن هناك شمّ الناس من فم الصديق رائحة الكبد المشويّ. وقال الفاروق : ليت أمّ عمر لم تلده! وقال عليّ والخزائن مملوءة ذهبا وفضة : من يشتري سيفي هذا ولو وجدت ما أشتري به رداء ما بعته ـ وقطع الخوف نياط قلب عمر بن عبد العزيز فمات من خشية العرض ، وعلّق بعض السلف سوطا يؤدّب به نفسه إذا فتر. فترى ذلك سدى ، أم نحن المقرّبون وهم البعداء! فهذه أحوال لا تؤخذ من كتاب السّلم ، والإجارة والجنايات ، وإنّما تنال بالخضوع والخشوع ، وأن تظمأ وتجوع.
ومما يعينك على الأمر الذي دعوتك إليه ، ويزوّدك في السفر المعرض عليه ، أن تجعل لك وقتا وتعمره بالتذكّر والتفكّر ، وإنابة تجعلها معدّة لجلاء قلبك ، فإنّه إن استحكم صداه صعب تلافيه ، وأعرض عنه من هو أعلم بما فيه.
فاجعل أكثر همومك الاستعداد ليوم المعاد ، والتأهّب لجواب الملك الجواد ، فإنّه يقول : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢].
ومهما وجدت من همّتك قصورا ، واستشعرت من نفسك عمّا بدا لها نفورا ، فاجررها إليه وقف ببابه واطلب ، فإنّه لا يعرض عمّن صدق ، ولا يعزب عن علمه خفايا الضمائر (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٤].
فهذه نصيحتي إليك ، وحجّتي بين يدي الله إن فرطت إذا سئلت عليك ؛ فنسأل الله لي ولك قلبا شاكرا ، ولسانا ذاكرا ، ونفسا مطمئنّة بمنّه وكرمه ، وخفيّ لطفه ، والسلام.
واستمرّ الشيخ إلى أن توفّي في صفر سنة اثنتين وسبعمائة.
وأعيد بعده القاضي بدر الدين بن جماعة ، ثمّ صرف في ربيع الأول سنة عشر وسبعمائة.
وولي جمال الدين بن عمر الزّرعيّ ، ثمّ صرف.
وأعيد ابن جماعة في ربيع الآخرة سنة إحدى عشرة ، فلم يزل إلى أن عمي سنة سبع وعشرين.