وقال بعض أصحابه : ألزمني ابن طولون صدقاته ، وكانت كثرة ، فقله له يوما : ربما امتدّت إليّ اليد المطوّقة بالجوهر ، والمعصم ذو السّوار ، والكمّ الناعم ، أفأمنع هذه الطبقة؟ فقال : هؤلاء المستورون الّذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف ، احذر أن تردّ يدا امتدّت إليك ، واعط من استعطاك ، فعلى الله تعالى أجره ؛ وكان يتصدّق في كلّ أسبوع بثلاثة آلاف دينار سادة سوى الراتب ، ويجري على أهل المساجد في كلّ شهر ألف دينار ، وحمل إلى بغداد في مدّة أيامه ، وما فرّق على العلماء والصالحين ألفي ألف دينار ومائتي ألف دينار ، وكان خراج مصر في أيامه أربعة آلاف دينار وثلثمائة ألف دينار ، وكان لابن طولون ما بين رحبة مالك بن طوق إلى أقصى المغرب.
واستمرّ ابن طولون أميرا بمصر إلى أن مات بها ليلة الأحد لعشر خلون من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين ، وخلّف سبعة عشر ابنا. قال بعض الصوفيّة : ورأيته في المنام بعد وفاته بحال حسنة ، فقال : ما ينبغي لمن سكن الدّنيا أن يحقر حسنة فيدعها ولا سيئة فيأتيها ، عدل بي عن النار إلى الجنّة بتثبّتي على متظلّم عييّ اللّسان شديد التهيّب ، فسمعت منه وصبرت عليه حتّى قامت حجّته ، وتقدّمت بإنصافه ، وما في الآخرة أشدّ على رؤساء الدنيا من الحجاب لملتمس الإنصاف.
وولي بعه ابنه أبو الجيش خمارويه ، وأقام أيضا مدّة طويلة ، ثمّ في ذي الحجّة سنة اثنتين وثمانين قدم البريد فأخبر المعتضد بالله أنّ خمارويه ذبحه بعض خدمه على فراشه (١) وولّوا بعده ولده جيش (٢) فأقام تسعة أشهر ، ثمّ قتلوه ونهبوا داره ، وولّوا هارون بن خمارويه ، وقد التزم في كلّ سنة بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار ، تحمل إلى باب الخليفة ، فأقرّه المعتضد على ذلك ، فلم يزل إلى صفر سنة اثنتين وتسعين ، فدخل عليه عمّاه شيبان وعديّ ابنا أحمد بن طولون ، وهو ثمل في مجلسه ، فقتلاه (٣) ، وولي عمّه أبو المغانم شيبان ، فورد بعد اثني عشر يوما من ولايته من قبل المكتفي ولاية محمد بن سليمان الواثقيّ ، فسلّم إليه شيبان الأمر ، واستصفى أموال آل طولون ، وانقضت دولة الطولونية عن الديار المصرية.
__________________
(١) في الكامل لابن الأثير ٦ / ٨١ : في ذي الحجة بدمشق.
(٢) في الكامل لابن الأثير ٦ / ٨١ : وكان صبيا غرّا.
(٣) في الكامل لابن الأثير ٦ / ١١٠ : وقع بين أصحاب هارون في بعض الأيام عصبية فاقتتلوا ، فخرج هارون يسكنهم ، فرماه بعض المغاربة بمزراق معه فقتله.