أن يزرعه فأذن له ، ففعل ولم ينجح ، ولم يخلص منه دهن ، فسأل أباه أن يجري له ساقية من المطريّة إليه ، ففعل فلم ينجح.
قال : بأرض مصر حجر القيء ، إذا أخذه الإنسان بيده غلب عليه الغثيان ، حتّى يتقيّأ جميع ما في بطنه ، فإن لم يلقه من يده خيف عليه التلف.
وقال الكنديّ : جعل الله مصر متوسّطة الدنيا ، وهي في الإقليم الثالث والرابع ، فسلمت من حرّ الإقليم الأول والثاني ، ومن برد الإقليم الخامس والسادس ، فطاب هواؤها وبقي حرّها. وضعف حرّها ، وخفّ بردها ، فسلم أهلها من مشاتي الجبال ومصائف عمان وصواعق تهامة ودماميل الجزيرة وجرب اليمن ، وطواعين الشام وغيلان العراق ، وعقارب عسكر (١) مكرم ، وطلب البحرين وحمّى خيبر ، وأمنوا من غارات الترك ، وجيوش الروم وطوائف العرب ، ومكابرة الدّيلم ، وسرايا القرامطة ، وبثوق الأنهار ، وقحط الأمطار ، وقد اكتنفها معادن رزقها ؛ وقرب تصرّفها ، فكثر خصبها ، ورغد عيشها ، ورخص سعرها.
وقال الجاحظ في مصر : إنّ أهلها يستغنون عن كلّ بلد ، حتّى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا سور لغنى أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا ، وفيها ما ليس بغيرها ، وهو حيوان السّقنقور (٢) والنّمس ، ولولاه لأكلت الثعابين أهلها ، وهو لها كقنافذ سجستان لأفاعيها ، والسمك الرّعاد والحطب الصنط الّذي أوقد منه يوما أجمع ما وجد من رماده ملء كفّ ، صلب العود ، سريع الوقود ، بطيء الخمود. ويقال إنّه الأبنوس ؛ لكنّ البقعة قصرت عن الكتّان ، فجاء أحمر شديد الحمرة ، ودهن البلسان ، والأفيون وهو عصارة الخشخاش واللّبخ ، وهو ثمر في قدر اللوز الأخضر ؛ إلا أنّ المأكول منه الظاهر ، والأترجّ الأبلق والزّمرد. وأهلها يأكلون صيد بحر الروم وبحر فارس طريّا ، وفي كلّ شهر من شهورها القبطيّة صنف من المأكول والمشروب والمشموم ، يوجد فيه دون غيره ، فيقال رطب توت ، ورمّان بابة ، وموز هتور ، وسمك كيهك ، وماء طوبة ، وخروف أمشير ، ولبن برمهات ، وورد برمودة ، ونبق بشنس ، وتين بئونة ، وعسل أبيب ، وعنب مسرى. وإنّ صيفها خريف ، وشتاءها ربيع ، وما يقطعه الحرّ في سائر البلاد من الفواكه يوجد فيها في الحرّ والبرّ ؛ إذ هي في الإقليم الثالث والإقليم الرابع ، فسلمت من حرّ الأول والثاني وبرد الخامس والسادس. ويقال : لو لم يكن من فضل مصر إلّا أنها تغني في
__________________
(١) في الكامل لابن الأثير : ٧ / ١٨٩ : عسكر مكرم مدينة من كور الأهواز.
(٢) السقنقور : نوع من السحالي برتقالي اللون مخطط بالبني ، يدفن نفسه بالرمال بسرعة.