يطريها في عينيه ، حتّى أخذ منها تفاحة ، فعضّها ، فلما عضّها عضّ يده ، ثمّ قال : أتعرفه؟ هو الذي أخرج أباك من الجنّة ؛ أما إنّك لو سلّمت بهذا الذي كان معك لأكل منه أهل الدنيا قبل أن ينفد ، وهو مجهودك إن تبلغه فكان مجهوده أن بلغه.
وأقبل حامد حتّى دخل أرض مصر ، فأخبرهم بهذا ؛ فمات حامد بأرض مصر.
وبهذا الإسناد إلى عبد الله بن صالح ، حدّثني ابن لهيعة عن وهب بن عبد الله المعافريّ ، عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) [الشعراء : ٥٧ ، ٥٨] ، قال : كانت الجنان بحافّتي هذا النيل ، من أوّله إلى آخره في الشّقّين جميعا من أسوان إلى رشيد ، وكان له سبعة خلج : خليج الإسكندرية ، وخليج دمياط ، وخليج سردوس ، وخليج منف ، وخليج الفيّوم ، وخليج المنهى ، وخليج سخا ، متّصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء (١) ، ويزرع ما بين الجبلين كلّه من أوّل مصر إلى آخر ما يبلغه الماء ، وكانت جميع مصر كلّها يومئذ تروى من ستة عشر ذراعا.
وبهذا الإسناد إلى ابن لهيعة ، وعن يزيد بن أبي حبيب ؛ أنّه كان على نيل مصر فرضة (٢) لحفر خليجها ، وإقامة جسورها وبناء قناطرها. وقطع جزائرها مائة ألف وعشرون ألف فاعل ، معهم الطّور والمساحي والأداة ، يعتقبون ذلك ، لا يدعون ذلك شتاء ولا صيفا.
وذكر بعض الأخباريّين أن حامدا هذا لم يتنبّأ ، وأنّه أوتي الحكمة ، وأنّه سأل الله أن يريه منتهى النيل ، فأعطي قوّة على ذلك فوصل إلى جبل القمر ، وقصد أن يطلع إلى أعلاه ، فلم يقدر ؛ فسأل الله فيسّره عليه ، فصعد فرأى خلفه البحر الزفتيّ ، وهو بحر أسود منتن الريح مظلم ، فرأى النيل يجري في وسطه ؛ كأنّه السّبيكة الفضّة.
وقال صاحب مباهج الفكر : ذكر أبو الفرج قدامة أنّ مجموع ما في المعمور من الأنهار مائتان وثمانية وعشرون نهرا ؛ منها ما يجري من المشرق إلى المغرب ، ومنها ما يجري من الشمال إلى الجنوب ، ومنها ما جريانه كنهر النيل من الجنوب إلى الشمال ، ومنها ما هو مركّب من هذه الجهات كالفرات وجيحون ؛ فأمّا النّيل فذكر قدامة أنّ انبعاثه من جبل القمر وراء خط الاستواء من عين تجري منها عشرة أنهار ؛ كلّ خمسة منها يصبّ إلى بطيحة (٣) كبيرة في الإقليم الأول ، ومن هذه البطيحة يخرج نهر النيل.
__________________
(١) انظر النجوم الزاهرة : ١ / ٧١.
(٢) الفرضة : محط السفن. النجوم الزاهرة : ١ / ٤٨.
(٣) البطيحة : مسيل واسع فيه رمل ودقاق الحصى.