نزلوا في خدمة شيخ إلى الإصطبل ؛ فأعيدت الخدمة عنده ، ويقع عنده الإبرام والنقض ، ثم يتوجّه دواداره (١) إلى المستعين ، فيعلم على المناشير والتواقيع. ثمّ إنّ تقدّم إليه بألّا يمكّن الخليفة من كتابة العلامة إلا بعد عرضها عليه ، فاستوحش الخليفة عليه ، وضاق صدره ، وكثر قلقه ، فلمّا كان في شعبان سأل شيخ الخليفة أن يفوّض إليه السلطنة على العادة ، فأجاب بشرط أن ينزل من القلعة إلى بيته ، فلم يوافقه شيخ على النزول ، بل استنظره أياما.
ثمّ إنه نقل المستعين من القصر إلى دار من دور القلعة ، ومعه أهله ، ووكّل به من يمنعه الاجتماع بالنّاس ، فبلغ ذلك نوروز ، فجمع القضاة والعلماء في سابع ذي القعدة ، واستفتاهم عمّا صنعه شيخ بالخليفة ، فأفتوه بعدم جواز ذلك ؛ فأجمع على قتال شيخ ، واستمرّ المستعين في القلعة إلى ذي الحجّة سنة ستّ عشرة ، وهو باق على الخلافة ، فلمّا عزم شيخ إلى الشام خشي من غائلته ، وأراد خلعه فراجع البلقينيّ في ذلك. وكان في نفسه من المستعين شيء لكونه عزله ، فرتّب له دعوى شرعيّة ، وحكم بخلعه من الخلافة ، وبايع بالخلافة أخاه أبا الفتح داود ، ولقّب المعتضد بالله ، وسيّر المستعين إلى الإسكندرية ، فأقام بها إلى أن مات شهيدا بالطاعون ، في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين (٢).
واستقرّت الخلافة باسم المعتضد ، وكان من سروات الخلفاء ، نبيلا ذكيا فاضلا ، يجالسه العلماء والفضلاء ، ويستفيد منهم ويشاركهم فيما هم فيه ، جوادا سمحا ، وطالت مدّته في الخلافة نحو ثلاثين سنة ، فلمّا حضرته الوفاة عهد بالخلافة إلى شقيقه أبي الربيع سليمان ، ولقّب المستكفي بالله ؛ وكان والدي خصيصا به ، فكتب له العهد بيده وهذه صورته :
بسم الله الرحمن الرحيم ؛ هذا ما أشهد على نفسه الشّريفة حرسها الله وحماها ، وصانها من الأكدار ورعاها ، سيّدها ومولانا ذو المواقف الشريفة الطاهرة الزكيّة الإماميّة الأعظميّة العبّاسية النبويّة المعتضديّة ، أمير المؤمنين وابن عمّ سيد المرسلين ، ووارث الخلفاء الراشدين ، المعتضد بالله تعالى أبو الفتح داود ، أعزّ الله به الدين ، وأمتع ببقائه
__________________
(١) الدوادار : مسئول عن تبليغ الرسائل عن السلطان وإبلاغ عامة الأمور وتقديم القصص والمشاورة على من يحضر إلى الباب وتقديم البريد. [الخطط المقريزية : ٢ / ٢٢٢].
(٢) شذرات الذهب : ٧ / ٢٠٣.