وهاجر الى الكوفة (إذ هي عاصمة البلاد) كبار المسلمين من مختلف الآفاق ، وسكنتها القبائل العربية من اليمن والحجاز ، والجاليات الأجنبية الفارسيّة (من المدائن وايران) فعمرت فيها الأسواق التجارية ، وزهت فيها الدراسات العلمية ، والأبحاث الأدبية والفقهية (١) ولم تنازعها في ذلك كافّة البلاد الاسلامية الأخرى ، ما عدا (البصرة) حيث نازعتها الى حدّ ما لتلك المنزلة ، فبدأ التحزّب بين المدينتين العملاقتين ، وأدّى ذلك التحزّب الى الخلافات في الآراء العلمية والفقهية والأدبية ، وكثرت الأدلّة والحجج بين الطرفين ، واختلفت في التعليم ، وفي قراءة وإعراب كثير من آيات القرآن الكريم ، وأصبح الناس يسمعون : قال الكوفيون وقال البصريون (٢).
فكانت الكوفة كما قلنا (كوفة العلم والأدب) أو جامعة الثقافة الاسلامية ، وهذا ما زاد في قيمتها التأريخية بآثارها العلمية والأدبية ، وبما أنجبت من علماء وأدباء وشعراءهم مفاخر التاريخ الاسلامي في أهمّ أدوار نهضتها الثقافية.
__________________
(١) الشيخ راضى آل ياسين ـ صلح الحسن ص ٦٥.
(٢) لم يكن القرآن الكريم منقطّا عند نزوله ، ولم تكن عليه علامات الإعراب (الرفع ، والنصب ، والجر والجزم) مكتوبة إلّا بعد أن أوعز الإمام عليّ عليهالسلام إلى أبي الأسود الدؤلي للقيام بهذه المهمة (وذلك بعد أن أخذ الناس يلحنون في كلامهم) وعلى سبيل المثال نوضح للقارئ الكريم أوجه الاختلاف بين القراء الكوفيين والبصريين وغيرهم في قراءاتهم. قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام : آية (٥٥) (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ). فقرأ أهل الكوفة : (وليستبين) بالياء ، و (سبيل) بالرفع. وقرأ أهل المدينة (وليستبين) بالياء و (سبيل) بالنصب. وقرأ زيد عن يعقوب : (وليستبين) بالياء و (سبيل) بالنصب. وقرأ الباقون : (ولتستبين) بالتاء و (سبيل) بالرفع. وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) سورة المائدة ـ آية (٥٧). فقرأ أهل البصرة والكسائي (والكفار) بالجر وقرأ الباقون (الكفار) بالفتح. الطبرسي ـ مجمع البيان في تفسير القرآن. ج ٣ / ٢٢١.