ولم يكن حينئذ على ما هو الآن عليه فبنى به مولانا أبو الحسن رحمة الله عليه القلهرّة(١٢) العظمى بأعلى الحصن وكانت قبل ذلك برجا صغيرا تهدم بأحجار المجانيق ، فبناها مكانه (١٣) ، وبنى به دار الصناعة ، ولم يكن به دار صنعة ، وبنى السور الأعظم المحيط بالتّربة الحمراء الآخذ من دار الصنعة إلى القرمدة ثم جدد مولانا أمير المومنين أبو عنان ، أيده الله عهد تحصينه وتحسينه وزاد بناء السور بطرف الفتح ، وهو أعظم أسواره غناء وأعمها نفعا وبعث إليه العدد الوافرة والأقوات والمرافق العامة وعامل الله تعالى فيه حسن النية وصدق الاخلاص.
ولما كان في الأشهر الأخيرة من عام ستة وخمسين (١٤) وقع بجبل الفتح ما ظهر فيه أثر يقين مولانا أيده الله وثمرة توكّله في أموره على الله ، وبان مصداق ما اطّرد له من السعادة الكافية ، وذلك أن عامل الجبل ، الخائن الذي ختم له بالشقاء ، عيسى بن الحسن بن أبي(١٥) منديل نزع يده المغلولة على الطاعة ، وفارق عصمة الجماعة ، وأظهر النفاق وجمح في الغدران والشقاق ، وتعاطى ما ليس من رجاله ، وعمى عن مبدأ حاله السيئ ومآله ، وتوهّم الناس أن ذلك مبدأ فتنة تنفق على إطفائها كرائم الأموال ، ويستعد لاتقائها بالفرسان والرجال ، فحكمت سعادة مولانا أيده الله ببطلان هذا التوهم ، وقضى صدق يقينه بانخراق العادة في هذه الفتنة ، فلم تكن إلا أيام يسيرة ، وراجع أهل الجبل بصائرهم ، وثاروا على الثائر ، وخالفوا الشقيّ المخالف ، وأقاموا بالواجب من الطاعة ، وقبضوا عليه وعلى ولده المساعد له في النفاق، وأتي بهما مصفّدين إلى الحضرة العلية فنفذ فيهما حكم الله في المحاربين وأراح الله من شرّهما.
ولما خمدت نار الفتنة أظهر مولانا أيده الله من العناية ببلاد الاندلس ما لم يكن في حساب أهلها وبعث إلى جبل الفتح ولده الاسعد المبارك الأرشد أبا بكر المدعوّ من السمات
__________________
(١٢) رسم هذا اللفظ في بعض النسخ هكذا (القاهرة) وفي بعضها (المأثرة) وقد رسمتها نسخة الأمير مولاي العباس هكذا : القلهرّة أي القلعة الحرة أي (Calahorra) على نحو الاسم الموجود في قرطبة اليوم ، ويفهم من بروفنصال الميل إلى هذا الاختيار الذي ربّما وجده أيضا في مخطوطة الكتاني!
(١٣) تذكر بعض التعاليق أن فيرديناند الرابع بنى دار صناعة أخرى على أسس دار الصناعة القديمة التي كانت من إنشاءات أبي الحسن لتحصين الجبل بعد سقوط الجزيرة الخضراء.
ويرى نوريس Norris أنّ معظم البناء في السور من دار الصناعة إلى الساحة ، كان فيما بعد عام ٧٣٣ ـ ١٣٣٣. هذا وما يزال اسم القلعة الحرة (Calahorra) رائجا إلى الآن في الجبل.
(١٤) آخر يوم من عام ٧٥٦ كان ١٤ دجنبر ١٣٥٥.
(١٥) كان ابن أبي منديل حاكما على جبل طارق منذ أن اكمل أبو الحسن بناء الجبل ... وقد وقف إلى جانب السلطان أبي الحسن ضدّ ولده أبي عنان ، وكان من كبار مستشاري بني مرين ، لكنه لم يلبث أن انضم إلى أبي عنان بعد أن فقد الأمل ، القصة المروية هنا من قبل ابن جزي حول «انتقاض عيسى» تتوافق مع التي حكاها ابن خلدون بتفصيل أكثر مع فارق أن هذا الأخير (ابن خلدون) يظهر منه أنه كان يتعاطف مع عيسى ... ـ تاريخ ابن خلدون ج ٧ ص ٦١٢ ـ ٦١٣. طبعة دار الكتاب اللبناني ١٩٨٣.