قدمت على عمر بن عبد العزيز بخناصرة وهو يومئذ ، فلما نظر إليّ عرفني ولم أعرفه ، فقال لي : ادن يا أبا حازم ، فلما دنوت منه عرفته ، فقلت : أنت أمير المؤمنين؟ قال : نعم ، قلت : ألم تكن عندنا بالمدينة بالأمس أميرا لسليمان بن عبد الملك ، فكان مركبك وطيئا ، وثوبك نقيا ، ووجهك بهيا ، وطعامك شهيا ، وقصرك مشيدا ، وحرسك كثيرا ، فما الذي غيّر ما بك وأنت أمير المؤمنين ، فبكى ثم قال لي : يا أبا حازم ، كيف لو رأيتني بعد ثالثة وقد سالت حدقتاي على وجنتي ، وسال الصديد والقيح من منخري ، وانشق بطني ، وجرت الديدان في بدني لكنت لي أشدّ إنكارا منك من يومك هذا ، أعد عليّ الحديث الذي حدّثتنيه بالمدينة ، قال : قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، سمعت أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إنّ بين أيديكم عقبة كئودا مضرّسة لا يجوزها إلّا كل ضامر مهزول» ، فبكى طويلا ثم قال لي : يا أبا حازم ، أتلومني أن أضمّر نفسي لتلك العقبة عسى أنجو منها يوما ما وما أظنني بناج ، ثم فتر ثم رقد ، فتكلم الناس ، فقلت : أقلوا الكلام ، فما فعل به ما ترون إلّا سهر الليل ، ثم تصبّب عرقا في نومه حتى بلّ ما حوله ، ثم بكى حتى علا نحيبه ، ثم ضحك حتى تبدّت ثناياه ، ثم استيقظ ، فسبقت الناس إلى كلامه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، لقد رأيت منك عجبا ، إنك لمّا رقدت تصبّبت عرقا في نومك حتى بللت ما حولك ، ثم بكيت حتى علا نحيبك ، ثم ضحكت حتى بدت ثناياك ، قال : رأيتموني في تلك الحالات كلّها؟ قلت : نعم ، فبكى ثم قال لي : يا أبا حازم ، إنّي لما وضعت رأسي فرقدت رأيت كأن القيامة قامت ، وكأن الله حشر الخلائق حفاة عراة ، ما على أحد منهم خرقة ، فكانوا عشرين ومائة صفّ ، ما بين كل صف ملء الأفق ، أمّة محمّد صلىاللهعليهوسلم من ذلك ثمانون صفا ، والموحّدون من سائر الأمم أربعون صفا ، مغتمين (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ)(١) ينتظرون متى يقربون إلى الحساب ، إذ نادى مناد (٢) : أين عبد الله بن عثمان ، وهو أبو بكر الصدّيق غيّر رسول الله صلىاللهعليهوسلم اسمه فخرج رجل طويل القامة ، حسن الوجه ، يخضب بالحنّاء والكتم ، فأخذت الملائكة بيده (٣) فأوقفوه أمام الله ، فحوسب حسابا يسيرا ، ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنّة ، ثم نادى المنادي : أين عمر بن الخطّاب ، فخرج رجل طويل القامة ، حسن الوجه ، حذر من الرجال ، له شعرة ، ناتئ الثديين ، يخضب (٤) بالحناء ، فأخذت الملائكة بيده ، فأوقفوه أمام الله ، فحوسب حسابا
__________________
(١) سورة القمر ، الآية : ٨.
(٢) بالأصل : منادي.
(٣) في حلية الأولياء ٥ / ٣٠٠ بضبعيه.
(٤) تقرأ بالأصل : مخضب.