وإن شئت قلت : إنّ الرسالة الإلهية لما كانت ملازمة مع المتاعب والمشاق ، وكان في مثل هذا الموقف أرضية أن يترك المخاطب بعض ما أُمر به ، صح للمتكلم أن يخاطبه بتلك العبارة مستلهماً ذلك من طبيعة العمل وصعوبته ، وما يكتنفه من المتاعب.
وفي الحقيقة ليس الموجب لهذا الخطاب إلاّ ملاحظة طبيعة العمل ذاته ، لا المخاطب بما يتمتع به من الخصوصيات والمؤهلات.
وهذه القاعدة جارية في كل ما يخاطب به الله نبيه بما لا يناسبه وعصمته وعلو همته ، وهذا واضح لمن عرف القرآن وامتزج به روحه وعقله ، وإليك نموذجاً من ذلك.
أنا نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيه بلحن يلازم احتمال الشك والترديد في ذهن النبي بالنسبة إلى رسالته ويقول : ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (١).
نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيه بجمل تشعر بوجود الشك والريب في نفس النبي بالنسبة إلى رسالته ، ولكن هذا الاحتمال سرعان ما يزول إذا علمنا أنّ الخطاب من هذا النوع يكون مع قطع النظر عن الخصوصيات الموجودة في المخاطب ( بالفتح ) من العلم القاطع بنبوته ورسالته ، والعصمة عن أيّ شك أو تكذيب.
أضف إلى ذلك أنّ الخطابات القرآنية تجري مجرى « إيّاك أعني واسمعي يا جارة » الذي يجري عليه فصحاء العرب وبلغاؤهم ، بل هو أصل رصين في المسائل التربوية حيث إنّ المربي الحكيم إنّما يتحاشى توجيه النقد إلى الغرباء مباشرة بل
__________________
(١) يونس : ٩٤ ـ ٩٥.