خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) (١). ما يلي :
إنّ السلف من المفسرين ـ إلاّ من شذّ ـ ذهب إلى أنّ معنى قوله : ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) أنّ صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين.
وحيث كان هذا المعنى يصطدم بالاتجاه المادي ولا تصدقه أنصار الحضارة المادية الذين ينكرون إمكان صيرورة الإنسان قرداً حقيقياً دفعة واحدة ، عمد الأستاذ إلى تأويل هذه الآية ، وتفسيرها على النحو والنهج الجامع بين الاتجاهين المادي والديني !!
فمع أنّه نقل عن الجمهور أنّ معنى الآية أنّ صورهم مسخت فأصبحوا قردة على الحقيقة والواقع ، نجده ينحاز إلى رأي مجاهد الذي قال : ما مسخت صورهم ، ولكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقردة ، كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ). (٢)
ثم قال : ومثل هذا قوله تعالى : ( وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ). (٣) وقال : الخسوء هو الطرد والصغار ، والأمر للتكوين ، أي فكانوا بحسب سنّة الله في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس.
ثم أخذ في رد قول الجمهور ، وقال : ولو صح ـ ما ذكره الجمهور ـ لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة ، لأنّهم يعلمون بالمشاهدة أنّ الله لا يمسخ كلَّ عاص ، فيخرجه عن نوع الإنسان ، إذ ليس ذلك من سننه في خلقه ، وإنّما العبرة الكبرى في العلم بأنّ من سنن الله تعالى في الذين خلوا من قبل : أنّ من يفسق عن أمر ربّه ويتنكب الصراط الذي شرّعه له ، ينزل عن مرتبة الإنسان ، ويلتحق
__________________
(١) البقرة : ٦٥ ـ ٦٦.
(٢) الجمعة : ٥.
(٣) المائدة : ٦٠.