البشرية التي استقرّت على أن يصل الناس إلى معايشهم ومآكلهم ومشاربهم ومآربهم من طريق السعي والجد تكميلاً لنفوسهم وتربية لعزائمهم ، فإذا كان مطلوب القوم أن يفجر لهم النبي ينبوعاً وعيناً لا ينضب ماؤها حتى تتبدّل أراضيهم القاحلة إلى الأراضي الطيبة الصالحة للزرع والغرس ، فهو على خلاف تلك السنّة الحكيمة التي نلمسها في الحياة الإنسانية ، وعلى ذلك نزل الذكر الحكيم قال سبحانه : ( وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَىٰ ) (١).
نعم ربما تقتضي بعض الأحوال والظروف أن يقوم النبي ـ لإبقاء حياة قومه ـ ببعض المعاجز التي بها تستديم حياتهم كما نرى ذلك في حياة بني إسرائيل ، فإنّ موسى استسقى لقومه لما شكوا إليه من الظمأ فأوحى الله تعالى إليه أن : ( اضْرِب بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ) (٢).
ولا يعد مثل ذلك نقضاً للسنّة العامة المذكورة فإنّ حياة بني إسرائيل في التيه كانت حياة خاصة حرجة غير مشابهة لحياة الأقوام الأخرى الذين يقدرون على معايشهم بيسر وسهولة وكسب وكدح ، ولأجل ذلك نرى أنّ رحمته سبحانه شملتهم بوجوه متعددة حكاها الله سبحانه في القرآن الكريم قال تعالى : ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَىٰ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٣).
فلأجل الشرائط الحرجة الاستثنائية التي كان يمر بها بنو إسرائيل ، خصّهم سبحانه بالنعم المذكورة في هذه الآيات ، وعندما تمكن بنو إسرائيل من تحصيل النعم بالكد والكدح ، وسوَّغت الظروف قيامهم برفع حوائجهم بأنفسهم تركهم
__________________
(١) النجم : ٣٩.
(٢) البقرة : ٦٠.
(٣) البقرة : ٥٧.