فهذه الحوادث الدامية عند قريش ، المرّة في أذواقهم بما أنّها جرّت إلى ذهاب كيانهم ، وحدوث التفرقة في صفوفهم ، والفتك بصناديدهم على يد النبي الأكرم ، صوّرته في مخيلتهم وخزانة أذهانهم صورة إنسان مجرم مذنب قام في وجه سادات قومه ، فسب آلهتهم وعاب طريقتهم بالكهانة والسحر والكذب والافتراء ، ولم يكتف بذلك حتى شن عليهم الغارة والعدوان فصارت أرض يثرب وما حولها ، مجازر لقريش ، ومذابح لأسيادهم ، فأيّ جرم أعظم من هذا ، وأي ذنب أكبر منه عند هؤلاء الجهلة الغفلة ، الذين لا يعرفون الخيّر من الشرير ، والصديق من العدو ، والمنجي من المهلك ؟
فإذن ما هو الأمر الذي يمكن أن يبرئه من هذه الذنوب ويرسم له صورة ملكوتية فيها ملامح الصدق والصفاء ، وعلائم العطف والحنان حتى تقف قريش على خطئها وجهلها.
إنّ الأمر الذي يمكن أن ينزّه ساحته من هذه الأوهام والأباطيل ، ليست إلاّ الواقعة التي تجلّت فيها عواطفه الكريمة ، ونواياه الصالحة ، حيث تصالح مع قومه ـ الذين قصدوا الفتك به وقتله في داره ، وأخرجوه من موطنه ومهاده ـ بعطف ومرونة خاصة ، حتى أثارت تعجب الحضّار من أصحابه ومخالفيه ، حيث تصالح معهم على أنّه « من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليّه ردَّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممّن مع محمد لم يردّوه عليه ، وأنّه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه » (١).
وهذا العطف الذي أبداه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذه الواقعة مع كونه من القدرة بمكان ، وقريش في حالة الانحلال والضعف ، صوّر من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عند قومه
__________________
(١) السيرة النبوية لابن هشام : ٢ / ٣١٧ ـ ٣١٨. ط ٢ ، ١٣٧٥ ه.