ثمّ إنّ الكشّي (وهو أقدم رجالي وصل إلينا كتابه) بيّن حال بعض الرّواة مسندا وليست أسانيده متواترة فمن أين ينشأ احتمال التواتر ، بل القلب يطمئن بعدم التواتر في كثير من التّوثيقات.
وثالثا : إنّ تطبيق الكبرى ليست من الحدسي الّذي لا يثبت بخبر الواحد ، بل هو قريب من الحسّ واضح السبيل يثبت بخبر الواحد ، كما مرّ ، وبالجملة تصديق الثّقة أمر ظاهر ارتكازي للعقلاء معدود عندهم من الحسيات في الاعتبار. ولو كان مطلق الحدسي ـ وإن كان ضعيفا ـ مانعا عن معاملة الحسّي معه لكان التواتر أيضا حدسيّا لاحتياجه إلى قياس خفى ، كما قرّر في المنطق ، فلاحظ.
ورابعا : إنّ إثبات تواتر نقل ، بدعوى بناء العقلاء على معاملة الحسي مع الخبر المردّد بين كونه حسّيا أو حدسيّا مقطوع الفساد عند العرف ، بل ولعلّه لم يخطر ببال أحد من العقلاء سوى هذا السّيد الجليل المتصدّي لحجيّة أقوال علماء الرجال. (١)
نعم هنا شيء آخر يمكن به الفرق بين التّوثيق المرسل والرّواية المرسلة ، فيقال بحجيّة الأوّل دون الثّاني.
وحاصل هذا الوجه : أنّ نقل الرّواية من الضّعيف ممكن ولا مانع منه. وأمّا نقل التّوثيق عن الضعيف فغير صحيح ، ولا ينبغي صدوره عن الفضلاء ، فضلا عن الأكابر ؛ وذلك فإنّ الغرض الوحيد من التّوثيق هو إثبات وثاقة الرّاوي وعدم كذبه في قوله ونقله ، حتّى تصبح رواياته عند العلماء والمجتهدين الذين هم غير عالمين بحاله حجّة ، وعليه فيكون توثيق الرّاوي بنقل ضعيف نقض للغرض ، فإنّ كلّ عاقل يفهم أنّ وثاقة مجهول لا تثبت بتوثيق كاذب ، أو مجهول مثله.
ولا ينبغي لأحد أنّ ينسب هذا الاحتمال إلى أمثال هؤلآء الأكابر مثل الشّيخ وأمثاله من أقطاب العلوم الشّرعيّة.
فإذا حكم الشّيخ ـ مثلا ـ بوثاقة أحد ، لا بدّ من إحرازه وثاقة جميع نقلة الوثاقة.
__________________
(١) وقريب منه ما أفاده بعض السّادة الأجلاء حين مذاكراتي معه أيضا في النجف الأشرف في بيته بعد تلك المذاكرة بعدّة سنوات ، بيد أنّ الجليل المذكور عبّر بالواضح دون المتواتر ـ والمراد : السّيد السعيد الشّهيد المفكّر الإسلامي الكبير. السّيد باقر الصدر رحمهالله حشره الله مع أجداده ، [استشهد اليه بعد الطبعة الأولى من هذا الكتاب] ـ.
فإنّ أراد السّيد الشّهيد رحمهالله من الوضوح ، التواتر ، ففيه ما مرّ ، وإن أراد بالوضوح ما هو معلول القرائن ، فهو حدسي ، وإن أراد به الاطمئنان الحاصل من كثرة الطرق ، ففيه أنّه يختلف من أحد إلى آخر.