دينهم كما هو مدلول قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ) [البقرة : ١٧٠] الآية ، فهذه الحالة كلها تشبه حال الناعق بما لا يسمع ، فالنبي يدعوهم كناعق بغنم لا تفقه دليلا ، وهم يدعون أصنامهم كناعق بغنم لا تفقه شيئا. ومن بلاغة القرآن صلوحية آياته لمعان كثيرة يفرضها السامع.
والنعق نداء الغنم وفعله كضرب ومنع ولم يقرأ إلّا بكسر العين فلعل وزن ضرب فيه أفصح وإن كان وزن منع أقيس ، وقد أخذ الأخطل معنى هذه الآية في قوله يصف جريرا بأن لا طائل في هجائه الأخطل :
فانعق بضأنك يا جرير فإنما |
|
منّتك نفسك في الظلام ضلالا |
والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد ، فهو تأكيد ولا يصح ، وقيل الدعاء للقريب والنداء للبعيد ، وقيل الدعاء ما يسمع والنداء قد يسمع وقد لا يسمع ولا يصح.
والظاهر أن المراد بهما نوعان من الأصوات التي تفهمها الغنم ، فالدعاء ما يخاطب به الغنم من الأصوات الدالة على الزجر وهي أسماء الأصوات ، والنداء رفع الصوت عليها لتجتمع إلى رعاتها ، ولا يجوز أن يكونا بمعنى واحد مع وجود العطف ؛ لأن التوكيد اللفظي لا يعطف فإن حقيقة النداء رفع الصوت لإسماع الكلام ، أو المراد به هنا نداء الرّعاء بعضهم بعضا للتعاون على ذود الغنم ، وسيأتي معنى النداء عند قوله تعالى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) [الأعراف : ٤٣] في سورة الأعراف.
وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أخبار لمحذوف على طريقة الحذف المعبر عنه في علم المعاني بمتابعة الاستعمال بعد أن أجرى عليهم التمثيل ، والأوصاف إن رجعت للمشركين فهي تشبيه بليغ وهو الظاهر وإن رجعت إلى الأصنام المفهومة من ينعق على أحد الاحتمالين المتقدمين فهي حقيقة وتكون شاهدا على صحة الوصف بالعدم لمن لا يصح اتصافه بالملكة كقولك للحائط : هو أعمى ، إلّا أن يجاب بأن الأصنام لما فرضها المشركون عقلاء آلهة وأريد إثبات انعدام الإحساس منهم عبر عنها بهذه الأوصاف تهكما بالمشركين فقيل : صم بكم عمي كقول إبراهيم : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) [مريم : ٤٢].
وقوله : (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) تقريع كمجيء النتيجة بعد البرهان ، فإن كان ذلك راجعا للمشركين فالاستنتاج عقب الاستدلال ظاهر لخفاء النتيجة في بادئ الرأي ، أي إن تأملتم