والوسط اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفا ولما كان الوصول إليه لا يقع إلّا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة طبعا كوسط الوادي لا تصل إليه الرعاة والدواب إلّا بعد أكل ما في الجوانب فيبقى كثير العشب والكلأ ، ووضعا كوسط المملكة يجعل محل قاعدتها ووسط المدينة يجعل موضع قصبتها لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدو بسهولة ، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤة فيه ، فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفا فأطلقوه على الخيار النفيس كناية قال زهير :
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم |
|
إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل |
وقال تعالى : (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) [القلم : ٢٨]. ويقال أوسط القبيلة لصميمها.
وأما إطلاق الوسط على الصفة الواقعة عدلا بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط كالشجاعة بين الجبن والتهور ، والكرم بين الشح والسرف والعدالة بين الرحمة والقساوة ، فذلك مجاز بتشبيه الشيء الموهوم بالشيء المحسوس فلذلك روي حديث : «خير الأمور أوساطها» وسنده ضعيف وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صارا حقيقتين عرفيتين.
فالوسط في هذه الآية فسر بالخيار لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] وفسر بالعدول والتفسير الثاني رواه الترمذي في «سننه» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلىاللهعليهوسلم وقال حسن صحيح ، والجمع في التفسيرين هو الوجه كما قدمناه في المقدمة التاسعة.
ووصفت الأمة بوسط بصيغة المذكر لأنه اسم جامد فهو لجموده يستوي فيه التذكير والتأنيث مثل الوصف بالمصدر في الجمود والإشعار بالوصفية بخلاف نحو رأيت الزيدين هذين فإنه وصف باسم مطابق لعدم دلالته على صفة بل هو إشارة محضة لا تشعر بصفة في الذات.
وضمير المخاطبين هنا مراد به جميع المسلمين لترتبه على الاهتداء لاستقبال الكعبة فيعم كل من صلى لها ، ولأن قوله (لِتَكُونُوا شُهَداءَ) قد فسر في الحديث الصحيح بأنها شهادة الأمة كلها على الأمم فلا يختص الضمير بالموجودين يوم نزول الآية.
والآية ثناء على المسلمين بأن الله قد ادخر لهم الفضل وجعلهم وسطا بما هيأ لهم