زنة المفاعلة حقيقة عرفية فجاء القرآن فأحياها وصيّرها استعارة أصلية جديدة بعد أن كانت تبعية منسية وقريب منها قول امرئ القيس :
فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل
و (تَخْتانُونَ) قال الراغب : «الاختيان مراودة الخيانة» بمعنى أنه افتعال من الخون وأصله تختونون فصارت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وخيانة الأنفس تمثيل لتكليفها ما لم تكلف به كأنّ ذلك تعزير بها ؛ إذ يوهمها أن المشقة مشروعة عليها وهي ليست بمشروعة ، وهو تمثيل لمغالطتها في الترخص بفعل ما ترونه محرما عليكم فتقدمون تارة وتحجمون أخرى كمن يحاول خيانة فيكون كالتمثيل في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ) [البقرة : ٩].
والمعنى هنا أنكم تلجئونها للخيانة أو تنسبونها لها ، وقيل : الاختيان أشد من الخيانة كالاكتساب والكسب كما في «الكشاف» قلت : وهو استعمال كما قال تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) [النساء : ١٠٧].
وقوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) الأمر للإباحة ، وليس معنى قوله : (فَالْآنَ) إشارة إلى تشريع المباشرة حينئذ بل معناه فالآن اتضح الحكم فباشروهن ولا تختانوا أنفسكم. والابتغاء الطلب ، وما كتبه الله : ما أباحه من مباشرة النساء في غير وقت الصيام أو اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد تحريضا للناس على مباشرة النساء عسى أن يتكون النسل من ذلك وذلك لتكثير الأمة وبقاء النوع في الأرض.
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ).
عطف على (بَاشِرُوهُنَ) ، والخيط سلك الكتان أو الصوف أو غيرهما يلفق به بين الثياب بشدة بإبرة أو مخيط ، يقال خاط الثوب وخيّطه. وفي خبر قبور بني أميّة أنهم وجدوا معاوية رضياللهعنه في قبره كالخيط ، والخيط هنا يراد به الشعاع الممتد في الظلام والسواد الممتد بجانبه قال أبو دؤاد من شعراء الجاهلية :
فلمّا أضاءت لنا سدفة (١) |
|
ولاح من الصّبح خيط أنارا |
__________________
(١) السدفة الضوء بلغة قيس والظلمة بلغة تميم فهي من الأضداد في العربية.