لقوله : (بَيْنَكُمْ).
ومعنى أكلها بالباطل أكلها بدون وجه ، وهذا الأكل مراتب :
المرتبة الأولى : ما علمه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلا كالغصب والسرقة والحيلة.
المرتبة الثانية : ما ألحقه الشرع بالباطل فبيّن أنه من الباطل وقد كان خفيا عنهم وهذا مثل الربا ؛ فإنهم قالوا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] ، ومثل رشوة الحكام ، ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ؛ ففي الحديث : «أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه» ، والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي : هي خمسون حديثا.
المرتبة الثالثة : ما استنبطه العلماء من ذلك ، فما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل ، والعلماء فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب من المالكية وتفصيله في الفقه.
وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في قضية عبدان الحضرمي وامرئ القيس فالكندي اختصما لرسول الله صلىاللهعليهوسلم في أرض فنزلت هذه الآية والقصة مذكورة في «صحيح مسلم» ولم يذكر فيها أن هذه الآية نزلت فيهما وإنما ذكر ذلك ابن أبي حاتم.
وقوله تعالى : (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) عطف على (تَأْكُلُوا) أي لا تدلوا بها إلى الحكام لتتوسلوا بذلك إلى أكل المال بالباطل. وخص هذه الصورة بالنهي بعد ذكر ما يشملها وهو أكل الأموال بالباطل ؛ لأن هذه شديدة الشناعة جامعة لمحرمات كثيرة ، وللدلالة على أن معطي الرشوة آثم مع أنه لم يأكل مالا بل آكل غيره ، وجوز أن تكون الواو للمعية و (تُدْلُوا) منصوبا بأن مضمرة بعدها في جواب النهي فيكون النهي عن مجموع الأمرين أي لا تأكلوها بينكم مدلين بها إلى الحكام لتأكلوا وهو يفضي إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الرشوة خاصة فيكون المراد الاعتناء بالنهي عن هذا النوع من أكل الأموال بالباطل.
والإدلاء في الأصل إرسال الدلو في البئر وهو هنا مجاز في التوسل والدفع.
فالمعنى على الاحتمال الأول ، لا تدفعوا أموالكم للحكام لتأكلوا بها فريقا من أموال الناس بالإثم ؛ فالإدلاء بها هو دفعها لإرشاء الحكام ليقضوا للدافع بمال غيره فهي تحريم للرشوة وللقضاء بغير الحق ، ولأكل المقضي له مالا بالباطل بسبب القضاء بالباطل.