والمعنى على الاحتمال الثاني لا تأكلوا أموالكم بالباطل في حال انتشاب الخصومات بالأموال لدى الحكام لتتوسلوا بقضاء الحكام ، إلى أكل الأموال بالباطل حين لا تستطيعون أكلها بالغلب ، وكأنّ الذي دعاهم إلى فرض هذا الاحتمال هو مراعاة القصة التي ذكرت في سبب النزول ، ولا يخفى أن التقيد بتلك القصة لا وجه له في تفسير الآية ، لأنه لو صح سندها لكان حمل الآية على تحريم الرشوة لأجل أكل المال دليلا على تحريم أكل المال بدون رشوة بدلالة تنقيح المناط.
وعلى ما اخترناه فالآية دلت على تحريم أكل الأموال بالباطل ، وعلى تحريم إرشاء الحكام لأكل الأموال بالباطل ، وعلى أن قضاء القاضي لا يغير صفة أكل المال بالباطل ، وعلى تحريم الجور في الحكم بالباطل ولو بدون إرشاء ، لأن تحريم الرشوة إنما كان لما فيه من تغيير الحق ، ولا جرم أن هاته الأشياء من أهم ما تصدّى الإسلام لتأسيسه تغييرا لما كانوا عليه في الجاهلية فإنهم كانوا يستحلون أموال الذين لم يستطيعوا منع أموالهم من الأكل فكانوا يأكلون أموال الضعفاء قال صنّان اليشكري :
لو كان حوض حمار ما شربت به |
|
إلّا بإذن حمار آخر الأبد |
لكنّه حوض من أودى بإخوته |
|
ريب المنون فأمسى بيضة البلد |
وأما إرشاء الحكام فقد كان أهل الجاهلية يبذلون الرّشا للحكام ، ولمّا تنافر عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة إلى هرم بن قطبة الفزاري بذل كل واحد منهما مائة من الإبل إن حكم له بالتفضيل على الآخر فلم يقض لواحد منهما بل قضى بينهما بأنهما كركبتي البعير الأدرم الفحل تستويان في الوقوع على الأرض فقال الأعشى في ذلك من أبيات :
حكّمتموه فقضى بينكم |
|
أزهر مثل القمر الباهر |
لا يقبل الرّشوة في حكمه |
|
ولا يبالي غبن الخاسر |
ويقال إن أول من ارتشى من حكام الجاهلية هو ضمرة بن ضمرة النهشلي بمائة من الإبل دفعها إليه عباد بن أنف الكلب في منافرة بينه وبين معبد بن نضلة الفقعسي لينفّره عليه ففعل ، ويقال إن أول من ارتشى في الإسلام يرفأ غلام عمر بن الخطاب رشاه المغيرة بن شعبة ليقدمه في الإذن بالدخول إلى عمر ؛ لأن يرفأ لما كان هو الواسطة في الإذن للناس وكان الحق في التقديم في الإذن للأسبق ، إذ لم يكن مضطرا غيره إلى التقديم كان تقديم غير الأسبق اعتداء على حق الأسبق فكان جورا وكان بذل المال لأجل تحصيله إرشاء ولا أحسب هذا إلّا من أكاذيب أصحاب الأهواء للغض من عدالة بعض الصحابة