فإن صح ولا إخاله : فالمغيرة لم ير في ذلك بأسا ؛ لأن الضر اللاحق بالغير غير معتد به ، أو لعله رآه إحسانا ولم يقصد التقديم ففعله يرفأ إكراما له لأجل نواله ، أمّا يرفأ فلعله لم يهتد إلى دقيق هذا الحكم.
فالرشوة حرمها الله تعالى بنص هاته الآية ؛ لأنها إن كانت للقضاء بالجور فهي لأكل مال بالباطل وليست هي أكل مال بالباطل فلذلك عطف على النهي الأول ؛ لأن الحاكم موكّل المال لا آكل ، وإن كانت للقضاء بالحق فهي أكل مال بالباطل ؛ لأن القضاء بالحق واجب ، ومثلها كل مال يأخذه الحاكم على القضاء من الخصوم إلّا إذا لم يجعل له شيء من بيت المال ولم يكن له مال فقد أباحوا له أخذ شيء معيّن على القضاء سواء فيه كلا الخصمين.
ودلالة هذه الآية على أن قضاء القاضي لا يؤثر في تغيير حرمة أكل المال من قوله : (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) فجعل المال الذي يأكله أحد بواسطة الحكم إثما وهو صريح في أن القضاء لا يحل حراما ولا ينفذ إلّا ظاهرا (١) ، وهذا مما لا شبهة فيه لو لا خلاف وقع في المسألة ، فإن أبا حنيفة خالف جمهور الفقهاء فقال بأن قضاء القاضي يحل الحرام وينفذ باطنا وظاهرا إذا كان بحل أو حرمة وادّعاه المحكوم له بسبب معين أي كان القضاء بعقد أو فسخ وكان مستندا لشهادة شهود وكان المقضي به مما يصح أن يبتدأ ، هذا الذي حكاه عنه غالب فقهاء مذهبه وبعضهم يخصه بالنكاح.
واحتج على ذلك بما روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت إجابته فادعى عليها ، عند عليّ أنه تزوجها وأقام شاهدين زورا فقضى عليّ بشهادتهما فقالت المرأة لما قضى عليها ، إن كان ولا بد فزوجني منه فقال لها عليّ شاهداك زوجاك ، وهذا الدليل بعد تسليم صحة سنده لا يزيد على كونه مذهب صحابي وهو لا يعارض الأحوال الشرعية ولا الأحاديث المروية نحو حديث «فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار» ، على أن تأويله ظاهر وهو أن عليا اتهمها بأنها تريد بإحداث العقد بعد الحكم إظهار الوهن في الحكم والإعلان بتكذيب المحكوم له ولعلها إذا طلب منها العقد أن تمتنع فيصبح الحكم معلقا.
__________________
(١) انظر هذه المسألة في «تفسير القرطبي» (٤ / ١٢٠) ، المسألة الثانية من [آل عمران : ٧٧).