البقاع وأفضت التوبة الآن إلى بيان تحديد الأحوال بغاية ألا تكون فتنة. فإذا انتهت الفتنة فتلك غاية القتال ، أي إن خاسوا بالعهد وخفروا الذمة في المدة التي بينكم على ترك القتال فقد أصبحتم في حل من عهدهم فلكم أن تقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أخرى من بعد يفتنونكم بها وحتى يدخلوا في الإسلام ، فهذا كله معلق بالشرط المتقدم في قوله : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] ، فإعادة فعل (وَقاتِلُوهُمْ) لتبنى عليه الغاية بقوله : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) وبتلك الغاية حصلت المغايرة بينه وبين (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وهي التي باعتبارها ساغ عطفه على مثله. ف (حتى) في قوله : (حَتَّى لا تَكُونَ) إما أن تجعل للغاية مرادفة إلى ، وإما أن تجعل بمعنى كي التعليلية وهما متلازمان ؛ لأن القتال لما غيي بذلك تعين أن الغاية هي المقصد ، ومتى كانت الغاية غير حسية نشأ عن (حتى) معنى التعليل ، فإن العلة غاية اعتبارية كقوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) [البقرة : ٢١٧]. وأيّا ما كان فالمضارع منصوب بعد (حتى) بأن مضمرة للدلالة على ترتب الغاية.
والفتنة تقدمت قريبا. والمراد بها هنا كالمراد بها هنالك ، ولما وقعت هنا في سياق النفي عمت جميع الفتن فلذلك ساوت المذكورة هنا المذكورة في قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة : ١٩١] فإعادة الفتنة منكرة هنا لا يدل على المغايرة كما هو الشائع بين المعربين في أن المعرفة إذا أعيدت نكرة فهي غير الأولى ؛ لأن وقوعها في سياق النفي أفاد العموم فشمل جميع أفراد الفتنة مساويا للفتنة المعرفة بلام الاستغراق إلّا أنه استغراق عرفي بقرينة السياق فتقيد بثلاثة قيود بالقرينة أي حتى لا تكون فتنة منهم للمسلمين في أمر الدين وإلّا فقد وقعت فتن بين المسلمين أنفسهم كما في حديث : «ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلّا دخلته».
وانتفاء الفتنة يتحقق بأحد أمرين : إما بأن يدخل المشركون في الإسلام فتنزل فتنتهم فيه ، وإما بأن يقتلوا جميعا فتزول الفتنة بفناء الفاتنين. وقد يفرض انتفاء الفتنة بظهور المسلمين عليهم ومصير المشركين ضعفاء أمام قوة المسلمين ، بحيث يخشون بأسهم ، إلّا أن الفتنة لما كانت ناشئة عن التصلب في دينهم وشركهم لم تكن بالتي تضمحل عند ضعفهم ، لأن الإقدام على إرضاء العقيدة يصدر حتى من الضعيف كما صدر من اليهود غير مرة في المدينة في مثل قصة الشاة المسمومة ، وقتلهم عبد الله بن سهل الحارثي في خيبر ، ولذلك فليس المقصود هنا إلّا أحد أمرين : إما دخولهم في الإسلام وإما إفناؤهم بالقتل ،