وقد حصل كلا الأمرين في المشركين ففريق أسلموا ، وفريق قتلوا يوم بدر وغيره من الغزوات ، ومن ثم قال علماؤنا : لا تقبل من مشركين العرب الجزية ، ومن ثم فسر بعض المفسرين الفتنة هنا بالشرك تفسيرا باعتبار المقصود من المعنى لا باعتبار مدلول اللفظ.
وقوله : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) عطف على (لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فهو معمول لأن المضمرة بعد (حتى) أي وحتى يكون الدين لله ، أي حتى لا يكون دين هنالك إلّا لله أي وحده.
فالتعريف في الدين تعريف الجنس ، لأن الدين من أسماء المواهي التي لا أفراد لها في الخارج فلا يحتمل تعريفه معنى الاستغراق.
واللام الداخلة على اسم الجلالة لام الاختصاص أي حتى يكون جنس الدين مختصا بالله تعالى على نحو ما قرر في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] ، وذلك يئول إلى معنى الاستغراق ولكنه ليس عينه ، إذ لا نظر في مثل هذا للأفراد ، والمعنى : ويكون دين الذين تقاتلونهم خالصا لله لا حظ للإشراك فيه.
والمقصود من هذا تخليص بلاد العرب من دين الشرك وعموم الإسلام لها ؛ لأن الله اختارها لأن تكون قلب الإسلام ومنبع معينه فلا يكون القلب صالحا إذا كان مخلوط العناصر.
وقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أثرا جيدا قال : جاء رجلان إلى ابن عمرأيام فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر وصاحب النبيصلىاللهعليهوسلم فما يمنعك أن تخرج؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي ، فقالا : ألم يقل الله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) فقال ابن عمر : قاتلنا مع رسول الله حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله ، قال ابن عمر : كان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة. وسيأتي بيان آخر في نظير هذه الآية من سورة الأنفال.
وقوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) ، أي فإن انتهوا عن نقض الصلح أو فإن انتهوا عن الشرك بأن آمنوا فلا عدوان عليهم ، وهذا تصريح بمفهوم قوله : (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠] واحتيج إليه لبعد الصفة بطول الكلام ولاقتضاء المقام التصريح بأهم الغايتين من القتال ؛ لئلا يتوهم أن آخر الكلام نسخ أوله وأوجب قتال المشركين في كل حال.