المقصود من الكلام المفتتح بقوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] بعد أن مهّد الله بما تقدم من أفانين التهيئة وإعداد الناس إلى ترقبه ابتداء من قوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ثم قوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ) [البقرة : ١٢٠] ثم قوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) [البقرة : ١٢٥] ثم قوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ).
و (قد) في كلام العرب للتحقيق ألا ترى أهل المعاني نظّروا هل في الاستفهام بقد في الخبر فقالوا من أجل ذلك إن هل لطلب التصديق فحرف قد يفيد تحقيق الفعل فهي مع الفعل بمنزلة إنّ مع الأسماء ولذلك قال الخليل إنها جواب لقوم ينتظرون الخبر ولو أخبروهم لا ينتظرونه لم يقل قد فعل كذا ا ه.
ولما كان علم الله بذلك مما لا يشك فيه النبي صلىاللهعليهوسلم حتى يحتاج لتحقيق الخبر به كان الخبر به مع تأكيده مستعملا في لازمه على وجه الكناية لدفع الاستبطاء عنه وأن يطمئنه لأن النبي كان حريصا على حصوله ويلزم ذلك الوعد بحصوله فتحصل كنايتان مترتبان.
وجيء بالمضارع مع (قد) للدلالة على التجدد والمقصود تجدد لازمه ليكون تأكيدا لذلك اللازم وهو الوعد ، فمن أجل ذلك غلب على قد الداخلة على المضارع أن تكون للتكثير مثل ربما يفعل. قال عبيد بن الأبرص :
قد أترك القرن مصفرّا أنامله |
|
كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد (١) |
وستجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) [الأنعام : ٣٣] في سورة الأنعام.
والتقلب مطاوع قلّبه إذا حوّله وهو مثل قلبه بالتخفيف ، فالمراد بتقليب الوجه الالتفات به أي تحويله عن جهته الأصلية فهو هنا ترديده في السماء ، وقد أخذوا من العدول إلى صيغة التفعيل الدلالة على معنى التكثير في هذا التحويل ، وفيه نظر إذ قد يكون ذلك لما في هذا التحويل من الترقب والشدة فالتفعيل لقوة الكيفية ، قالوا كان النبيصلىاللهعليهوسلم يقع في روعه إلهاما أن الله سيحوله إلى مكة فكان يردد وجهه في السماء فقيل ينتظر نزول
__________________
(١) البيت في «شرح شواهد المغني» (١٦٩) للهذلي ، وقيل : لعبيد بن الأبرص. هذا وليس في «أشعار الهذليين» هذا البيت وانظر «اللسان» (قدد) قال ابن بري : البيت لعبيد بن او برص ، والشاهد أيضا في «الصحاح» ، وهو في «ديوان عبيد» (٦٤).