الظلم والكذب وحجتهما على ذلك أن قوله : (النَّبِيِّينَ) جمع يفيد العموم (أي لأنه معرف باللام) فيقتضي أن بعثة كل النبيئين كانت بعد أن كان الناس أمة واحدة بدليل الفاء ، والشرائع إنما تلقيت من الأنبياء ، فتعين أن كون الناس أمة واحدة شيء سابق على شرائع الأنبياء ولا يكون إلّا مستفادا من العقل ، وهما يعنيان أن الله فطر الإنسان في أول نشأته على سلامة الفطرة من الخطأ والضلال ، قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] وقيل : أريد بالناس آدم وحواء. نقله ابن عطية عن مجاهد وقوم ، والذي نجزم به أن هذا كان في زمن من أزمان وجود الناس على الأرض يعلمه الله تعالى لقوله:(وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان : ٣٨] والأظهر أنه من زمن وجود آدم إلى أن أشرك قوم نوح.
وإن كان المراد الوحدة على الباطل فقد حصل ذلك في زمن نوح في أول ما قص الله علينا مع ما ورد في الصحيح أن نوحا أول الرسل إلى أهل الأرض ، فيظهر أن الضلال حدث في أهل الأرض وعمّهم عاجلا فبعث الله نوحا إليهم ثم أهلك الكافرين منهم بالطوفان ونجى نوحا ونفرا معه فأصبح جميع الناس صالحين ، ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله النبيين. فيجدر بنا أن ننظر الآن فيما تضمنته هذه الآية من المعنى في تاريخ ظهور الشرائع وفي أسباب ذلك.
الناس أبناء أب واحد وأم واحدة فلا جرم أن كانوا في أول أمرهم أمة واحدة لأن أبويهم لما ولدا الأبناء الكثيرين وتوالد أبناؤهما تألفت منهم في أمد قصير عائلة واحدة خلقت من مزاج نقي فكانت لها أمزجة متماثلة ونشئوا على سيرة واحدة في أحوال الحياة كلها وما كانت لتختلف إلّا اختلافا قليلا ليس له أثر يؤبه به ولا يحدث في العائلة تنافرا ولا تغالبا.
ثم إن الله تعالى لما خلق نوع الإنسان أراده ليكون أفضل الموجودات في هذا العالم الأرضي فلا جرم أن يكون خلقه على حالة صالحة للكمال والخير قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤]. فآدم خلق في أحسن تقويم يليق بالذكر جسما وعقلا وألهمه معرفة الخير واتباعه ومعرفة الشر وتجنبه فكانت آراؤه مستقيمة تتوجه ابتداء لما فيه النفع وتهتدي إلى ما يحتاج للاهتداء إليه ، وتتعقل ما يشار به عليه فتميز النافع من غيره ويساعده على العمل بما يهتدي إليه فكره جسد سليم قوي متين وحواء خلقت في أحسن تقويم يليق بالأنثى خلقا مشابها لخلق آدم ، إذ إنها خلقت كما خلق آدم ، قال تعالى :