ومعلوم أن كراهية الطبع الفعل لا تنافي تلقي التكليف به برضا لأن أكثر التكليف لا يخلو عن مشقة.
ثم إن كانت الآية خبرا عن تشريع مضى ، يحتمل أن تكون جملة (وَهُوَ كُرْهٌ) حكاية لحالة مضت وتلك في أيام قلة المسلمين فكان إيجاب القتال ثقيلا عليهم ، وقد كان من أحكامه أن يثبت الواحد منهم لعشرة من المشركين أعدائهم ، وذلك من موجبات كراهيتهم القتال ، وعليه فليس يلزم أن تكون تلك الكراهية باقية إلى وقت نزول هذه الآية ، فيحتمل أن يكون نزلت في شأن صلح الحديبية وقد كانوا كرهوا الصلح واستحبوا القتال ، لأنهم يومئذ جيش كثير فيكون تذكيرا لهم بأن الله أعلم بمصالحهم ، فقد أوجب عليهم القتال حين كانوا يكرهونه وأوجب عليهم الصلح في وقت أحبوا فيه القتال ، فحذف ذلك لقرينة المقام ، والمقصود الإفضاء إلى قوله : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لتطمئن أنفسهم بأن الصلح الذي كرهوه هو خير لهم ، كما تقدم في حوار عمر مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومع أبي بكر ، ويكون في الآية احتباك ، إذ الكلام على القتال ، فتقدير السياق كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومنعتم منه وهو حبّ لكم ، وعسى أن تكرهوا القتال وهو خير لكم وعسى أن تحبوه وهو شر لكم ، وإن كانت الآية إنشاء تشريع فالكراهية موجودة حين نزول الآية فلا تكون واردة في شأن صلح الحديبية ، وأول الوجهين أظهرهما عندي ليناسب قوله عقبه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة : ٢١٧].
وقوله : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) تذييل احتيج إليه لدفع الاستغراب الناشئ عن قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) ، لأنه إذا كان مكروها فكان شأن رحمة الله بخلقه ألا يكتبه عليهم فذيل بهذا لدفع ذلك.
وجملة (وَعَسى) معطوفة على جملة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) ، وجملة (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) : حالية من (شَيْئاً) على الصحيح من مجيء الحال من النكرة ، وهذا الكلام تلطف من الله تعالى لرسوله والمؤمنين ، وإن كان سبحانه غنيا عن البيان والتعليل ، لأنه يأمر فيطاع ، ولكن في بيان الحكمة تخفيفا من مشقة التكليف ، وفيه تعويد المسلمين بتلقي الشريعة معللة مذللة فأشار إلى أن حكمة التكليف تعتمد المصالح ودرء المفاسد ، ولا تعتمد ملاءمة الطبع ومنافرته ، إذ يكره الطبع شيئا وفيه نفعه وقد يحب شيئا وفيه هلاكه ، وذلك باعتبار العواقب والغايات ، فإن الشيء قد يكون لذيذا ملائما ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك ، وقد يكون كريها منافرا وفي ارتكابه صلاح. وشأن جمهور الناس الغفلة عن